التصنيفات
تربويات

مكالمة

(مؤمن أن هذه مشاعر إنسان ما.. في مكان ما.. في زمن ما)

 

لو أردت فإنه بإمكانك أن تسمي هذه الرسالة نزف القلم، أو قل غياب الروح، فحين قررت الكتابة لم أكن أفكر فيها، بل لم أكن أفكر في شي سوى في شعور غريبة يجتاح نفسي ويملئني برودة حارقة كالجليد.

 

الأيام تمر، وأنا الآن في سنتي الأخيرة وأخيراً سأدخل الأربعين، أتخيل سيرتي الذاتية المليئة، والتي ليست سوى سيرة مهنية أمتلك مثلها سيرة أدبية، وسيرة .. .. حركية إن صح التعبير.

 

أتذكر حديثي معك اليوم، وهو حديث أأنس به كثيراً فقد تعودت منك أن تصارحني بما تراه، لا أن تقول لي ماأحب سماعه، وتعلمت منك بلا شك، فهناك أبواب من الأفكار فتحت، وأخرى أغلقت، وإن كنت لازلت أشعر بالفراغ والصقيع.

 

أفكر أحياناً في بعض الرموز المعروفة في بيئتها، ليست بالشهيرة جداً، ولكنها شهيرة في مجتمعها، يسعد الناس بالتعرف إليهم، وحقيقة هي ذات العبارة التي أرددها حين أقابلهم في مشروع أو مهمة، ولكن حين أعود لحياتي فلاشي أضرّ بي مهنياً كما فعلوا هم.

 

يمكنك أن تتخيل أنواع الضرر التي لحقت بي بسببهم، الفراغ الروحي، قسوة القلب، الغضب، وحتى التعب والجهد، والضرر المادي، ثم أخرج بحصيلة لاتغني ولاتسمن من جوع.

 

التفكير في العزلة راودني مراراً، ولم استطع تحقيقه، بل حتى العزلة المقننة أو الجزئية لم أتمكن من الوصول إليها، فقد كان هناك سبب في كل مرة يمنعني من تحقيقها، مرة الحياة ومطالبها، ومرة الأسرة ورغباتها، ومرة التفكير في المسقبل وتبعاته. لا أطلب التميز الإيماني ممن حولي، ولست كذلك في الحقيقة، ولكنني أثق في إيماني، تماماً كما أثق لحظة كتابتي هذه بإيجابية القدر ومدى ملائمة مايختاره الله لنا، غير أن الحزن قدر أيضاً لابد وأن أنال نصيبي منه.

 

ذات مرة قلت لصديقي في العمل شيئاً عن المنافسة، فأنا خصم متعب لأنني طويل نفس وقنوع، أساعد من حولي، ولكن لايعني هذا إنشغالي عن الطريق.

 

أين هو مكاني الملائم؟ ماهو عملي الأنسب؟ أصمت غالباً حين يسألني الناس هذا السؤال، هل لأنني متعدد المواهب؟ أو لأنني لاأعرف الإجابة؟ أم لأنني أخاف من ذكر الإجابة؟ لاتعليق، فلكل إجابة بلا شك وجهة تحتمل الصحة وترتبط بالمؤثرات، وهكذا سأكون كل الناس في وقت من الأوقات.

 

يلومني البعض في تنقلي المهني، وأقف أمام لومهم وتقييمهم السلبي لي منزعجاً صامتاً في غالب الأوقات ومبتسماً في أوقات أخرى ومتفجراً في وجوههم في بعض الأوقات. من هو المسئول؟ وهل أخطات في تنقلي؟

 

بين وظيفة لاتوفر لي إيجار المنزل الشهري ناهيك عن تكاليف الحياة، ووظيفة وفرت لي الأمان المادي والمكانة الأفضل؟ في ظرف سبع سنين تغير كثير من المعطيات في حياتي، من التعليم الثانوي إلى الدراسات العليا.

 

وبين فرح البعض بنجاحي، وضيق البعض بمنافستي، وحسد البعض عشت حياةً يملئوها الخير بحمد الله، ولا تخلوا من فجوات تبطئني لأقف بعد كل حفرة لبرهة ألملم ماتناثر من أوراقي.

 

في حياتي البسيطة مساحات واسعة من التجارب، يميزها المعرفة بالتجربة، أي أنني حين أخوض تجربة فإنني استحضر كافة حواسي لتسجيلها والتعامل معها والاستفادة منها الاستفادة الكاملة، وبالتالي فلكل شي معنى خاص به، الشمس الحارقة في مدينتي لاتشبه الشمس الحارقة على الشاطئ، فهنا جافة أشعر أنني ألمسها وهي تطبعها جلدي بسمرة الجبال، بينما أشعر بها مبتلة في الشواطئ وكأنني سأكشط الجلد مع قطرات الرطوبة الملتصقة بيدي.

 

هذه التجارب تثريني، وفي الوقت نفسه تؤذيني، فحين أكون من القلائل اللذين يتعاملون مع الحياة بهذه المنهجية سأجد التعب، فهروبي من التعثر سيجعل من خلفي يغضب من بطئي أحياناً دون أن يدرك أنني قد سرت في هذا الطريق مرات سابقة.

 

ذات يوم قال لي رجل وهو يبتسم ابتسامة المربي العارف للحياة وأسرارها “لابد أن تتغير، دع الأمور تمشي كما يريدون”، وحاولت وقتها مجارتهم ولكن لم أتحمل الحياة. البعض يمشي عارياً على الشاطئ، ولكن الكثير منا لايستطيع أن يلبس شورتاً قصيراً في السوق، لماذا؟ لأنه لم يألف العري، ويعرف الفرق بين الستر والكشف.

 

المكاتب الحية النابضة، ورائحة القهوة تزكم الأنوف، وصوت الضحكات لم تكن تشغلني عن القلوب ومايدور فيها من مأتم والأرواح وهي تتعثر في مستقنعات قذرة موحلة. حتى المرأة التي ابتسمت لي وأبدت إعجابها بعطري وطلبت مواعدتي والخروج معي وانهت لقائنا بابتسامة ووردة وضعتها على مكتبي، وقبلة طائرة، كأنت أهون بكثير مما يدور من مواقف في هذه الوحدات.

 

ربما لم يكن حباً بقدر ماكانت شهوة وانبهار، ولكنها كانت مباشرة واضحة يمكن تلافي سهامها بقليل من الجهد وبالاستعانة بآخرين في بعض الأوقات، ولكن مايدور هنا هو شي آخر. بالأمس كنت في مزرعة مع رجل ظل فيها ستة عشر عاماً، تعلمت من جلوسي معه أن القلوب المريضة ترفض البيئة الصحيحة في البداية لأنها لم تألفها، فتظل فترة تصارع رغباتها وتطلب العودة للمستقنعات، لحين يزال بعض التركمات السوداء عنها وحينها يبدأ القلب في النبض طلباً للهواء النقي.

 

قلت لرجل قبل أيام، هل ستمتلئ الآبار لو نزل المطر؟ قال المشكلة في قلة البركة، صدمني دون أن يشعر، فهناك نقص في القطر ونقص في البركة. وهناك قلوب متعطشة لقطرات الإيمان.

 

تختفي سيرتي الذاتية المهنية، وتعود سير أخرى تبرز نفسها أمامي لأختار، أغلق باب الذكريات فلاحاجة لأي منها الآن، فمن لم يقتله السيف يلحقه الأذى، وأفكر في صوتك وأنت تكلمني، ولاأجد مبرراً لطعنات الناجحين، وأصر على أنها فشل مغطىً لم يبصره الآخرون لغياب المعايير وقلت المربين. أضع أقلامي على الطاولة، وأشبك بين يدي، وأتامل في صمت وشرود، لاعزلتي وصلت ولا حضارتهم قبلت، لاقلب ولا عقل، و.. .. .. أقفل الصفحة.

 

 

 

(الصورة بعدسة: عبدالله السعد)