التصنيفات
طائر المئذنة

الضياع..

لست من النوع الذي يتصنت على جيرانه أو يحاول كشف أسرارهم.. ولكن الوضع مع جاري عادل مختلف.. فذلك الطالب الهادئ الرقيق جعلني أتطفل وأرغب في معرفته أكثر. بدأت القصة عندما سكن بجواري، وهو يدرس في المعهد العالي للموسيقى.. كان هادئاً تأنس النفس لمرآه..  وكنت ألتقي به في السلالم أو عند البقال فيحييني في خجل وينصرف.. كنت أرى خلف ابتسامته لمحة من الحزن، تخبرك أنه من تلك الأسر التي تربت في النعيم ثم أدركها فقر فبقي نقاء الأصل وهذب الفقر نفوسهم.

وكان يحمل معه آلته في كل مكان.. وكم رأيته في الحديقة القريبة يحضنها وينظر إلى النهر وقد رحل في عالم غير عالمنا.. أمرّ قريباً منه فلا يشعر بي فأعلم أنه غارق في تأملاته.. عجبت لمثله يحمل همًّا وهو في سن الانطلاق.. وظننته من النوع المتشائم في البداية، ولكن لقاءاتنا المتعددة وأحاديثنا العفوية كشفت عن نفس حرة منشرحة.. ولكن الحياء يمنعها من الخلطة.. والشعور بالغربة يبقيها في عزلة.

الليالي في بيتي الهادئ تجعل لدي وقتاً لأتابع معزوفاته.. ومع أنني لست من النوع الذي يهتم بالموسيقى وبالفنون إلا أنني كنت أحب سماع مقطوعاته.. كان متقناً يحملك مع الأنغام في عالم من التأملات.. عزفه الهادئ يعكس شخصيته.. واختياره الأوتار الحادة يجعلك تشعر برغبته في الصراخ كأن شيئاً يؤلمه.. ولكن العجيب أنني كنت أسمعه يبكي في كل ليلة، هدوء الليل في هذه المناطق.. والطريقة التي تبنى بها البيوت في المدينة يجعلانني أسمع بكاءه وأشعر بألمه وكنت أتعجب وأتطلع إلى معرفة مايجري في غرفة ذيالك الصغير.. وكم مرة قمت من سريري ولبست معطفي لأذهب إليه.. لعله يشكو من شيء فأقف إلى جواره، ثم يدركني الحياء فأقول وما شأنك أنت.. رجل في بيته ويبكي ربما وصلته رسالة من أحد أهله فآلمته.. وربما يبكي غربته وبعده عن موطنه.. فأعود إلى فراشي ثانية وأدعو على تطفلي وعلى الموسيقى التي سببت لي هذا البلاء.. ولكنني في النهاية عزمت على الحديث معه وبدأت تحين الفرص.. حتى جاءت الفرصة سانحة في أحد الأيام.. وكان الجو صافياً والنسيم عليلاً فوجدته في الحديقة يقرأ كتاباً فاقتربت منه.. فلما رآني هش لي ودعاني للجلوس فاقتربت منه، وحييته بابتسامة وانطلقنا في حديث عن الجو، والأهل، والغربة، والدراسة، والتخرج، والوظيفة، والزواج.. فسألته..

– عادل.. هل تشكو من أي مرض؟

تعجب من سؤالي.. ورد بنفس متوقدة..

– لا ولله الحمد.

– هل تحن لأهلك؟

– الحنين وارد بلا شك.. ولكنني أشعر بالراحة هنا أيضاً.. حتى إنني أفكر أن أبقى هنا بعد تخرجي.

– متى ستتخرج؟

– بإذن الله هذا هو الفصل الأخير.. ولكن …

– لكن ماذا؟

صدرت عن صدره آهة عميقة شعرت بحرارتها تحرق قلبه.. ثم رد في مرارة..

– وماذا بعد؟

– بعد التخرج.. يأتي التعيين بإذن الله.

– التعيين … طلب الرزق بالمعصية؟

– …

– ربما تريد أن تصل إلى سبب بكائي..  أليس كذلك؟

فاجأني بالسؤال.. فلم أرد عليه..

– الحقيقة أنني شعرت أنك سمعتني.. والمشكلة يا أخي أن منازل الورق التي نعيش فيها تفضح كل شيء حولنا.

– إذاً.. ماهو السبب يا عادل صارحني.

– اسمع يا أخي.. لقد نشأنا في بيوت بسيطة.. وكنا نعرف أن الله يعطي النعم لأننا نعبده.. فإذا عصيناه تحولت هذه النعم.

– وأين المعصية في حياتك؟

– لقد كنت أشعر بالتميز من أجل دراستي.. ولكن غرق بين ماأدرسه، وماأقرأه عن تاريخ أمتي.

– ولكن هذا رزقك.. وحياتك يا عادل.. والله غفور رحيم.

– نظر إلي في هدوء وابتسم.. ثم رد.. أما الرزق فهو يأتي من الله، فلو حرم عاصياً فقد أنصفه.. وأما حياتي فما نفعها مع غضب الله.. ثم حبس عبرة كانت تريد أن تخرج واستأذن وتركني وقام.. ثم التفت ثانية وقال المشكلة أن نفسي ضعيفة تعجز عن الوصول إلى الطريق.

لم تتغير حياتنا كثيراً في الأيام التالية.. شيء واحد شعرت بتغيره.. وهو أن جلسة العزف بدأت تقل حتى انقطعت.. وصوت البكاء بدأ يتغير.. ولكنني لاحظت أنه يخرج من غرفته كل يوم بعد منتصف الليل أو قريباً من الفجر.

في البداية لم يكن الأمر يشغلني كثيراً فقد أخذتني الظنون كل مأخذ.. وابتسمت وقلت مرحلة شباب.. ولكن لما كثر الأمر شعرت بالقلق عليه.. فسهرت في ليلة من الليالي ولما شعرت به يتحرك قمت وارتديت معطفي.. وخرجت في أثره.. كنت أتبعه بحيث لا أفقده ولا يراني. كان السكون يوحي بالرهبة والطمأنينة.. أحسست أن نفسي تبتعد عني.. وبدأت ودقات قلبي تعلو.. ومع انكسار المصابيح على الجدران جعلت أذكر الله من خوفي.. حينها ارتفع صوت المؤذن محطما رهبة الليل “الصلاة خير من النوم”.. انتابتني رغبة  في البكاء.. لم أصل الفجر في المسجد منذ زمن.. سأصلي ولكنني أريد أن أعرف أين سيذهب عادل رأيته متجهاً إلى منتصف المدينة.. كنت أفكر ماذا سيفعل هناك  في هذا الوقت.. ترى هل هو على موعد مع أحد.

توقفت الرحلة عند هذا الحد.. فقد وصلنا إلى الجامع الكبير.. ودخل عادل إلى المسجد كان متوضأ فوقف يصلي ركعتين.. وبقيت أنظر إليه.. لقد عرف الطريق.. ومع وقوفه في الصف توقفت دموعه، واتخذ القرار.. ووقتها انتهى الضياع.

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)