التصنيفات
رسائل إلى نفسي

لقاء الغرباء

6/5/2011م

المنزل (الصالة).. الساعة 7:10 مساءً

بالأمس التقيت بمهند.. الشي المشترك بيني وبينه الرسائل، كلانا كتب رسائله الخاصة به، ولكن الأدوات كانت واحدة.. كنت أروي بقلمه ويروي بقلمي.. تتشابه الأصوات، الأسماء، الأحداث، الأهداف. لماذا يكتب اثنان بقلم واحد؟ هل يمكن أن تتطابق المعطيات بينهما؟ الطريق يتشابه، والأثار تتشابه كذلك، نتفق في الألفاظ أحياناً، ونختلف باختلاف التجربة والخبرة الحياتية.

أعجبني وصف أطلقه “كنا كالطيور نبحث عن غصن”، وأجبته وقتها “كنا طيوراً من غصن لغصن” لم نكن نبحث عن الغصن لذاته، بل لنقوم بدورنا في الحياة.. تغيب الأدوار في حياة الكثيرين، لماذ لم ننس؟ لماذا حفرت الأيام في ذاكرتنا، بقيت الصور نابضة، الآثار نابضة، الذكريات حية تتحرك. هل سيراها الآخرون ويشعروا بها؟

فكرت هذا اليوم كثيراً في الحكمة من وجودي ضمن الأحداث، ماحدث كان تاريخاً كتب بألف قلم، لكل قلم لغته الخاصة.. كنا العملاء والقتلة، والأبرار الصادقون.. كنا كل شي وكل وصف يمكن أن يطلق.. البعض منا يحمل أوشاماً في جسده غير وشم الذاكرة، مساحة يتحسسها ليتأكد من تطابق الأحداث، الواقع يحمل امتداداً للماضي، في أجسادنا وأجساد الراحلين.. لم أرى في حياتي قبراً ناطقاً يمكن أن تأنس الروح بالقرب منه كقبور الراحلين، حفرت بأيدينا وأودعنا فيها أحب مالدينا.. ابتسم إذا وقفت على القبر وكأنني أسمع صوت صاحبه، أصوات التكبيرات تنطلق لتحملني مرة أخرى إلى كل شبر وكل التفاصيل.

في كثير من الأوقات أغمض عيني لأرى صورهم، أسمع أصواتهم، وإذا فرحت ابتسمت لهم، كل التفاصيل معهم تأخذ واقعاً محسوساً، الأصوات والأشكال والروائح.. هنا رائحة البارود والعرق والغابة والنار والقهوة التركية يعدها عبيدة العجوز وهو يبتسم، لاأحتاج لأغمض عيني لتذكرهم، ربما كنت أغمض عيني لأبتعد عن المحيط المادي من حولي.. قليلة هي الأشياء التي تتشابه عندي، لكل صورة خصوصية ولكل صوت نغمة ولكل رائحة عبيرها الخاص بها. يتمزق قلبي لكل صورة، لكل صوت، ولكل رائحة تمزق بعبيرها ذاكرتي وقلبي ومساحات الظل في نفسي.. اسمع صوت ألم الذكرى كالسكين يمزق أشرعتي، أشعر به حاداً حارقاً.. أجري حتى أسقط شوقاً لهم.. أمد يدي أمسح قبورهم، وحقائبهم.. ابتسم لصورهم ولأطفالهم، أمسح رؤوس أطفالهم وأذرف في أعماقي الدموع على البقاء بعدهم.

لكل منا أدوات يكتب بها، الأحياء والأموات، المدارس والمساجد، المنازل والمقاهي، الذكريات الباسمة هنا وهناك، والخنادق والبارود وجبال ركضنا فيها حتى تمزقت أحذيتنا وتمزقت قيودنا التي تربطنا بالأرض.. حتى في الكتابة نخفي ملامح الأماكن والأسماء، نخاف من كل شي، لازال في أعماقنا الخوف من الحدود والقيود.

في ساعات الانتظار اتأمل مخزون الذاكرة.. مابقي في جعبتي وشواجيري غير حروفي وذكرياتي، أشحن مخازني وأنقل صوري عساها تروي للآخرين شيئاً مما حدث.. لم أعد أقرأ ماحدث بطريقة واقعية.. كل شي تشوهت ملامحه.. أصبح الكثيرون يكتبون مايريدون بأقلامهم وأفكارهم، ثم ينشروه ويتقبلوا الشكر على تجارب لم يعيشوها.

هل جربت أن تدخل محلاً للتصوير فيعطيك العامل صورة أخرى ويجبرك أن تأخذها باعتبار أنها تخصك؟

هل ستقبل في الجوازات أو الأحوال المدنية لو قدمتها وهي ليست لك؟

إذاً لماذا يصرون على أن نحمل جوازات وصوراً ليست لنا!! يضعون صورتهم الشوهاء ويقولون هذا أنتم..

 

(الصورة بعدسة: ريان المنصور)