التصنيفات
طائر المئذنة

الشيوعي

لم أفاجأ في حياتي بشيء بقدر ما تفاجأت بهذا الرجل الذي يصفه الناس بأنه شيوعي.. ولا أستطيع حتى الآن أن أصنفه.. ولم تفلح السنوات الثلاث في تحديد هويته بالرغم من وضوحه في كثير في الأمور حتى كانت ليلة رمضانية جمعتني به وكسرت بعض الحواجز.. وأيضاً تركت مزيداً من الحيرة بدأت القصة حين عدت من صلاة التراويح.. مسجد القرية يظل في النهاية مسجد قرية.. فكل شيء هناك مألوف ولولا موقعه المطل على النهر من جهة وعلى الغابة من جهة أخرى ماعرفه أي عابر من هذه المنطقة.. وكان جاري سعيد يقف على باب بيته وفي يده مجرفة، بدا لي أنه كان يستخدمه في تثبيت شتلة ورد أمام الباب، وحين رآني ابتسم كعادته واقترب من السور الذي يفصل بين منزله والشارع ومد إليّ كفه مصافحاً.

–        مرحبا.

–        أهلاً أستاذ سعيد.

–        هل ترغب في تناول كوب من القهوة معي؟.. أنا عازب هذه الأيام.. ابتسم في غموض ثم أضاف.. ولا شيء أسوأ من حياة شيخ عازب.

شعرت بالشفقة عليه.. ورحبت بالفكرة وقلت في نفسي علها تكون فرصة لمعرفته أكثر.. فوافقت ودخلت معه إلى بيته.. ولا أزعم أن منزله يشبه مساكن الشيوعيين في زهدهم.. فهو مرتب بأناقة وذوق.. وكان لوجود مكتبة في زاوية الصالة إيحاء يدل على ثقافة أهل المنزل.

وكالعادة في مثل هذه المواقف كان الحديث يدور حول الطقس والمحاصيل وأنباء القرية وحال أبنائها والمركز الصحي الجديد والمدرسة الكبيرة والمناهج الأوروبية.. وكنت طوال الكلام أحاول الربط بين المواضيع لشعوري أنه يقصد شيئاً من وراء هذا الحديث.. وفجأة ران صمت طويل وبقيت عيناه تراقبني وشعرت أنني أتعرى أمام هذا الشيخ الغامض.. حاولت تجنب نظراته أو طرح أسئلة عليه عله ينصرف عن مراقبتي.. وهو يرد علي بإجابات مقتضبة ولا يزيد على ابتسامته الغامضة.. وفجأة قطع الحديث ووجه سؤالاً نزل علي كالصاعقة.

–        أنت تحاول تصنيفي.. أليس كذلك؟

…. حاولت أن أنكر.. ولكنه قاطعني.

–        لا يحتاج أن تنكر.. أنا لا ألومك بل أنت يا بني تفكر أكثر من كل الذين قابلتهم في حياتي.

–        الحقيقة ليس تصنيفاً بقدر ماهو للتعرف على جاري بشكل أدق.

–        وماذا تريد أن تعرف يا بني؟

شعرت أن كل الكلام الذي كان في صدري قد اختفى.. ولم يبق سوى صمت وحبات عرق تنزل لتتجمع على أرنبة أنفي.. وشعور بالخزي يعتريني.

–    اسمع يا أمجد.. في يوم من الأيام كانت بلادنا في يد المسلمين.. كانت تحكمها الخلافة.. ومع أن الخلافة في ذلك العصر لم تخل من سلبيات.. أو هكذا صُور لنا.. إلا أنها في النهاية كانت قوة وعزة للمسلمين.. كنت وقتها شابـًًا مراهقاً أدركني مايدرك أقراني من النقص وغلبة الشهوة وقلة البصيرة.. فعشت أتمتع بشبابي وأغرق في ملذاتي دون مراعاة لقومي وعوراتهم.. حتى سقطت الخلافة وتسلط علينا الشيوعيون.. وعندها استيقظت ولكن كان كل شي قد تنكر لنا وبتنا في أسوأ حال.

وبشعور الشاب الغيور الأبي المحب للحرية رأيت أنه لازالت الفرصة سانحة لعمل شيء للإسلام.. فبدأت أطرق كل باب بقي ممن أعرف أنهم مسلمون فما وجدت باباً يقبل مني مساهمة في عمل خير.. وهكذا أصبحت أمشي طوال اليوم فلا أجد مسلماً يمد يده إلي لنقوم بشي لأمتنا وغاص البعض ممن كان يشار إليهم بالبنان في حمأة السياسة والتجارة.. فكرهت قومي وكرهت الناس وبدأت أبتعد عن الجميع.

كان العم سعيد يتكلم كأنه يقص علي قصة خيالية.. وجدتني أرحل معه في قصته ومع كل حرف كانت نبرة ألم تنطق في ملامح الشيخ وشفتيه المرتعشتين.

وعاد يتابع قصته.. في تلك الأيام بدأ الشيوعيون ينادون بشعارات خدع بها الكثير.. وكنت يومها أجلس في حانة اعتدت الجلوس فيها أيام اللهو.. فوقف أحد أصدقائي القدامى ممجداً الإلحاد فغضبت منه ورددت عليه.. كان عملي هذا مخاطرة.. فأي معارضة تعني القتل.. ولا أدري ما الذي دفعني للكلام.. أهو تمني الموت بسبب ما لاقيته أم غير ذلك؟.. المهم أنني رددت عليه فصاح رجل من آخر الحانة..

–        اسمعوا.. الواعظ السكير..

وتعالت قهقهات من كل الأركان.. وانهالت الألفاظ الساخرة علي  .. وأنا أحبس غيظي.. وفجأة قطع الضحك صوت هادئ يموت الرجال من الرعب عند سماعه.. ذلك هو عريف الشيوعيين في قريتي.

–        لماذا تضحكون؟

انسحب الرجال.. وبقيت في مكاني لم أتحرك منه.. فاقترب مني

-.. سعيد.. مابك يا سعيد..؟

 وارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة.. ولكنني في تلك الساعة لم أكن لأبالي بشيء.

–        يسب ديني.

–        وهل بقي دين يا سعيد؟

–        …

–        أنت ذكي.. وأحسب أنك ستكون مفيداً لنا.. لقد أضاعك قومك يا فتى..

ثم شدني من ثيابي وقال لي: أتظن أنني لا أعلم بنشاطك.؟

ثم ابتسم في مكر وأضاف..

-ولكنني أعلم أن قومك لن يستجيبوا.. فكر قليلاً.. وتعال معنا فالحرية تحت الألوية الحمراء.

كان ذلك هو بدايتي مع الشيوعية.. وسرعان ما ترقيت في مناصبها وساعدني بلادة القوم وغوغائيتهم.. وبدأ الكل يخاف مني ومع ذلك فقد كنت أنكر في نفسي بعض مبادئي.. ولكنني بقيت آخذ من كل الأفكار.

تنهد الشيخ بعمق كأنه يريد أن يلقي بقية القصة من صدره.. وكأن حملا ثقيلاً على قلبه كل هذه السنين.. وارتعشت شفته في حركة أعرف فيها معنى الألم وحبس الدمع.

كنت أثناء عملي في الحزب أتابع الروح الإسلامية في صدور أبناء شعبي فهالني أنني لم أر نبضة تبشر بميلاد.. وهالني أكثر أن أهل العلم انقسموا قسمين.. قسم قتله الإلحاد وكانوا هم الأمل الحقيقي.. وقسم كان أقل من الموظفين في وزارته يمجدونه أكثر من تمجيده لنفسه.. وكلما صاح صوت باسم الإسلام أسكتوه ووقفوا ضده.. فجهزت أمري وقررت الاعتزال.

لم أتمالك نفسي.. وسقطت دمعة على خدي سارعت لأمسحها بيدي.. وتراقصت على نسمة الريح شمعة في زاوية المطبخ فألقت بظلالها على وجه العجوز.

–        وهكذا يا بني بقيت كما ترى.. أعطي للناس ابتسامتي بعد أن أعطوني المرارة.

–        وماذا حدث بعد ذلك؟

–        عاد الإسلام.. ولكن في صورة يأباها الإسلام.. مسخ من الأفكار والمعتقدات.. وغاب الرجال الأحرار.

–        وأنت؟

–        أنا في قريتي كما رأيتني..

ومد يده بكوب آخر من القهوة.، شكرته.. كنت أريد أن أسمع البقية.. ولكن ظلال الصمت عادت من جديد.

تركته وعدت إلى غرفتي.. ألقيت كتبي على الأرض.. وأخذت أبكي..

-أين الإسلام.. لماذا حدث كل ذلك مع العجوز.؟

كانت الأسئلة تقفز إلى ذهني سريعة لتتحطم على صخور اليأس.. وفي ظلمة الليل امتدت يد الظلام لتطفئ شمعة النور.

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)