التصنيفات
طائر المئذنة

أشواق وأشواك

سبحان الله..

حتى الطيور تحن..

تذوب أجنحتها شوقاً..

تتألم..

تتعذب..

ومن أجل الوصول لمن تحب..

ترفرف نحو الآفاق..

 

(1)

المساحات الخضراء ممتدة.. السهول واسعة تدعو كل متأمل ناشد للسكينة.. الألوان مختلطة.. يمتزج فيها الأخضر بالأحمر.. يعانق الأصفر الأبيض.. تحدها الأشجار.. ونهر جارٍ يتفرع منه أكثر من جدول.. خرير الماء يكمل قطعة من التسبيح رائعة.. وأصوات الطيور تجاوب همسات الرياح..

هذه الأرض سلمت من يد البشر.. هنا حيث لا ضغينة ولا حرمان.. لا حسد ولا هموم.. تشرق شمس الصباح ناشرة مع إشراقتها الدفء والحياة. ويظهر القمر كل ليلة ليكسو كل ورقة أثوابه الفضية.. تهب الأشجار الأوكار والأعشاش للطيور.. ويحنو الزهر على النحل معطياً إياه الرحيق.. وينقل النحل الرسائل بين زهرة وزهرة ليستمر البقاء.. كل شيء هنا يقدم للآخر.. يعمل من أجله.. وحين يأتي موسم الرحيل تهاجر الطيور تاركة كل شيء.. لكنها تعود لتتزاوج من جديد.

–        من أنت؟ قالت الزنبقة..

–        يسمونني الحنون.. وابتسم لها.. أنا من طيور الجبال.

–        قالت بتعجب.. أووه أحقاً!! سمعت أن الحياة عندكم مخيفة.

–        رد مبتسماً.. نعم مخيفة بقدر السعادة.. متعبة بقدر الراحة.. إن تعبنا في حياتنا هو سر بقائنا.

نظر الطائر إلى الأفق.. وبدأ يتمتم.. إن قلباً عرف الفضاء.. لن يرضى بالأرض.. ونفساً تعلقت بالذرى لن تقبل بالسفوح.

–        قطعت الزنبقة حبل أفكاره.. وقالت وكيف أتيت هنا؟

–        كنت في رحلتي.. وقادني إلى هذا المكان الهدوء وتناسق الأشياء.

–        نعم.. مكان جميل.. ويبدو كل شيء متناسقاً.

–        قالت الزنبقة.. نعم.. ولكن….

–        تفرس فيها الطائر.. ولكن ماذا؟ كأنك تفكرين في أمر.

–        نعم.. الكل هنا متناغم.. ولكنني أشعر بغربة بينهم..

–        كيف؟

–        لازلت صغيرة.. لم أتكيف بعد مع دورة الحياة.

–        ابتسم لها الطائر.. ولكنك ذكية.. وأرى أنك تحملين قلباً طاهراً.. أبيض كالثلج.

–        ابتسمت.. يشبه ريشك الجميل.

بدت الزنبقة متعجبة جدًّا من الحنون.. تخيلته عملاقاً وبدأت تنسج له من خيالها الصور.. تتخيله في القمم.. يزاحم الهواء.. أجنحته القوية تمكنه من الطيران بقوة.. ونظرته الباسمة تسحر الفضاء..

–        هل ستطول إقامتك هنا؟

–        لا أدري… ولكن على أي حال لابد أن أرحل ذات يوم.

–        لماذا؟

–        ابتسم لها.. لأن مكاني في القمم.. هناك تكتمل دورتي في الحياة.

لم تعرف الزنبقة أن الحنون كان حزيناً.. كان يبحث عن أرض يحلق فيها.. هذه الساحات لاتستهويه.. إنها تصلح فقط للراحة والاستجمام.. ولكن عليه أن يقدم الكثير.

–        كيف تحب أن أناديك؟

–        ابتسم الطائر.. ما رأيك أنت؟

–        أممم.. أنت أبيض.. وقوي.. وجميل.. أناديك.. ملكي.

–        ابتسم لها الطائر.. وأنت كيف أناديك؟

–        اختر لي أنت.

–        حسناً أناديك.. ابنتي.

–        فرحت الزنبقة.. ابتسمت ولكنها سرعان ما طأطأت رأسها.. وذبلت.

–        ما بك.. لم الحزن؟

–        أبي سيرحل ويتركني.. سأبقى وحيدة بعدك.

–        ابتسم لها.. أنت لست وحيدة.. انظري حولك. كل هذه المروج قريبة منك.

لم ترد الزنبقة.. لكن قطرات الندى كانت تعبر.

–        اسمعي يا ابنتي.. أتشعرين بالوحدة  وأنت بين الزنابق ؟

–        ….

شعر الحنون بقلبه يتفجر.. لم تكن الزنبقة تدرك أنها بدمعتها تلك غرست في قلبه خناجرَ وسقته سموما.. كان غريباً مثلها.. رحل ليبحث عن وطنه.. أشاح بوجهه عنها.. ودون أن تشعر سقطت على خده دمعة.. أقوى القلوب هي تلك التي تذرف الدمع في صمت.. تحترق فيها آلاف الآهات.. تريد الخروج فلا تجد إلا الصمت.. فتتعذب الأرواح.. وفي عزة وعناد يبتسم أصحابها.

في قاموس الحياة لاتوجد قلوب سعيدة بالكامل.. ففي كل قلب مرارة.. من سلم من مرارة الحرمان لم يسلم من مرارة الشوق.. ومن ابتسم لإشراقة بكى لظلمة.. ومن كان محلقاً اشتاق للاستقرار.. ومن استقر حنّ للرحيل..

كل ما ترى حولك هو قلبي وقلبك.. هو أنا وأنت.. هو ابتسامة الطفل تعانق صرخة الوليد.. وفرحة الولادة تصاحب الآم المخاض.. والحزن على الرحيل يقابل لذة السفر.. والبكاء على الماضي يبشر بالمستقبل..

–        بُـنيتي..

رفعت الزنبقة رأسها على صوته الرقيق.. كانت تفكر فيه.. بدا لها عظيماً.. شعرت بأنس لقربه منها. تمنت أن يفرد أجنحته ليحتويها.. ليضمها ويحميها.

–        ابتسم الطائر.. أتشعرين بالسعادة لو زرتك؟

–        أشرقت أوراقها بابتسامتها.. بالتأكيد يا ذاتي.

–        إذاً ابتسمي.. فسأكون قريباً منك.

الفرق بين الدمعة والبسمة هو وصول خبر.. كلمة واحدة ينقلها بشير تطير قلوبا فرحاً بها.. وقد تكون الكلمة مفتحاً للشقاء.. إن الأحداث تجري لتغير المشاعر.. لماذا لانرى النور في الأحداث إلا بالتعب.. ويمكننا أن نبصر الحزن في كل همسة وحركة.. لماذا تتغير مشاعرنا من أجل كلمة ربما كانت من غريب لا نعرفه؟ لماذا تتعلق قلوبنا وتشتاق؟ لماذا نشعر بتغير الدنيا من حولنا من أجل قلب؟

شمس اليوم هي شمس الأمس.. لماذا نشعر أن كل شيء حولنا قد يتغير إذا تغيرت مشاعرنا.. النور يظلم.. السماء تسقط.. الماء يجف.. الدنيا تقسو.. وتبقى قلوبنا غريبة تتأثر بكل همسة ونسمة.

 

(2)

مرت الأيام كأهدأ ما تكون.. والأيام كالبحر تمر عليها فترات هدوء وسكينة فننعم بخيراتها.. نستمتع بكل لحظة فيها.. ونعيش في أحضان أمواجها تارة.. وتارة على شواطئها.. وبين خيرها وشرها نتقلب. ثم تتغير الأيام فتكون كأمواج هادرة.. تعلو فلا تعرف معنى للرحمة.. تلك الأمواج التي حملتنا في يوم من الأيام قد تكون هي عين الأمواج التي تغرقنا.. والقاع الذي يحوي الدر هو ذاته الذي يحتضن الموت.. والشاطئ الآمن الذي نأوي إليه.. يمسي صخوراً تكسر ألواحنا..

حدثته الزنبقة عن نفسها كثيراً.. وحدثها عن نفسه.. حدثته عن بذرة طيبة ألقيت في الأرض.. فأنبتت زهرة خير تكاثرت ونفعت.. ربما حمل البذرة طائر مثله.. حدثته عن أحلامها.. أمانيها.. أفكارها.. عن كل شيء في حياتها.. كيف حوى الغصن الرقيق كل هذا؟ بدت له كنسمة خير.. كصورة ملاك.. كزهرة من الجنة.. تأملها كثيراً.. كانت تحيا في عالم آخر.. بدا لها طائرها الدنيا كلها.. ورأت فيه كل الصور والأمنيات..

حدثها عن السهل والجبل.. عن الصحراء والمروج.. نقل إليها صوراً من العالم لم تكن تتوقعها.. حملها إلى قمم الجبال.. وعبر بها ساحات الأودية.. كانت رفيقة دربه في رحلاته.. تفرح إذا ذكر موقفاً يفرحه.. وتبكي وتتألم لو شعرت بتعبه.. لم تكن الزنبقة سوى طفلة مدللة لطائر محلق.. في صورة غريبة من صور الألفة.. جمعت بين طائر وزنبقة.

أشرقت الشمس.. واستيقظت الزنبقة.. فتحت براعمها لتستقبل يومها وقلبها.. مؤملة أن يأتي مبكراً هذا الصباح فقد آنست من نفسها رغبة في الحديث معه.. تحس بقلق غريب يساورها.. ترى هل سيأتي؟ لماذا تسأل نفسها هذا السؤال.. إنه يأتي دائماً.. ماسر توجسها في هذا اليوم؟ ما الذي تغير عليها؟

نظرت الزنبقة إلى الأفق وسرحت بفكرها بعيداً تنتظر مجيئه.. وبقيت ساهمة حتى المساء.

الطائر ذو الريش الأبيض.. لم يكن بعيداً عنها بقلبه.. كان يفكر فيها كثيراً.. يحلق بجسده.. وروحه تسابق تحليقه.. وقلبه مع زنبقته.. الهواء يقاوم أجنحته.. كأنه يريد أن يثنيه عن التحليق.. وقبل لحظات كان يقاوم ساق الزنبقة لتنثني.

ماالذي جعل الحنون يقسو ويغادر الزنبقة دون أن يخبرها عن وجهته.. إنها ليست القسوة.. بل الفرق بين طبيعة الطائر والزنبقة.. الرغبة في التحليق، والوصول إلى القمم العالية رغبة تصارع نفس الطائر، بينما كانت التربة الجيدة والمناخ الملائم كافيان لاستقرار الزنبقة.

هل نختار في حياتنا ما يوافق طبيعتنا؟.. أم نظل كطائر وزنبقة نظن أننا متفقون بينما نحن نحلق في عالم الوهم..

يدور في مرج الزنابق همس عن الزنبقة الصغيرة.. الأقران يتعجبون من الغيرة يتكلمون.. يقضون الليل على ضفاف الجدول يتسامرون.. يروون حلم الزنبقة وقصة الانتظار.. وينسجون القصص حول الطائر الأبيض..

–        قالت زنبقة: أنا أرى أنها حالمة.

–        ردت أخرى..نعم.. ولكن ما فائدة العمر لو كان كله واقعاً.

–        ردت ثالثة.. بصراحة هي سعيدة إذ تستطيع التخيل.

–        قالت رابعة.. عن نفسي أريد حباً كهذا.

–        وهل هو حب؟ إنها مجرد صداقة.

–        أياً ما يكون، المهم أن أجد قلباً يشعر بي.

–        ثم ماذا؟ لن تشعري بالراحة معه.

–        إيه أيتها الزنابق.. لتحلم كل واحدة بما تريد.

–    أنا عن نفسي أحلم بحقل كبير من الزنابق.. كله من نتاجي.. أرمي بذوري في كل مكان وأزهر.. ما الفائدة أن أحلم ثم أجد نفسي وحيدة وقد تغير العالم كله من حولي؟

–        الأحلام وحدها طموح.

–        عندك أنت.. أما أنا فمسئولياتي أكبر.

–         جيد يا حكيمة.. إذاً عيشي وموتي في واقعيتك.. وماذا ستستفيدين من حقل زنبقي؟

–        نظرت الزنبقة إليها “باشمئزاز” وقالت.. هذا هو الأصل.. لقد خلقت لأكون زنبقة.

–        ردت أخرى مؤيدة.. ووافقتها ثالثة ورابعة.

–        …

–    وخلق ليكون طائراً.. لماذا أصر على رفع رأسي لأعلى أراقب السماء.. بينما في الأرض صور من الجمال؟ أفضل أن أعيش زنبقة، وأرى الزنابق من حولي الزنابق..

ويدور جدل كهذا ولا ينتهي.

لم يكن الحال بين الزنابق الأكبر سنـًّا.. والأعمق خبرة.. والأكثر دراية بأفضل من الحال بين الزنابق الشابة. كنّ يتجادلن في غضب وينتقدن الجيل الجديد.

–        لم نسمع عن شيء كهذا.

–        نعم.. هذا غريب.. لقد انتهى الزمان.

–        أذكر أننا في شبابنا لم نكن نعلم عن وجود شيء اسمه طيور.

–        كنا نعرف فقط الزنابق والنحل.

تضحك زنبقة عجوز..

–        أنت لم تعرفي ولكن أنا عرفت.

ويسود الابتسام.. ولكن كان الكل متعجبًا.. بين منتقد وحاسد.

 

(3)

هاهو ذا الشتاء القارص يهبط بثقله على الدنيا.. يكسو الكون بحبيبات الندى المتجمدة.. ويغطي القلوب بموجة الجليد هذه.. تنعكس الشمس على صفحته الصافية.. منظر يحمل الحياة والموت.. ومن بين طياته تخرج أصول أشجار مبتسمة.. ونباتات تقاوم الموت والبرد.

لم يعد الطائر.. وكذا الزنبقة.. كان رحيلاً مشتركاً.. الطائر بجسده.. والزنبقة بروحها.. ترتجف أوراقها تحت سهام الفجر.. تفكر في حضن يأويها.. توهم نفسها بقربه.. تشعر بهمسه.. وتغمض عينيها علّها ترى طيفه.. تعيش في عالمه وعالمها.. نست أو تناست الزنابق من حولها.. والنحل قريب منها.. والطيور تعانق حقلها.. تسمع خفق أجنحة.. تنظر بلهف، تقلب بصرها في الفضاء.. تتمنى أن يكون هو.. ولكن…

–        في الليل.. نجوم وجليد.. وحدة وغربة.. تنظر إلى السماء فترى النجوم زاهرة.. تتذكره وتصرخ بملء صوتها.. يا طائري الحبيب.

–        ردد الليل صدى صرختها.. وسمعت صوت في الظلام يجيب عليها.. بنيتي.

–        من.. من ينادي؟

–        أنا عمتك الشجرة.. ارفعي رأسك.

–        رفعت رأسها لترى الشجرة تنظر إليها بحنان.. هذا أنت ياعمتي؟

–        بنيتي.. ما بك؟

–        …

–        الحنين إلى الحنون.

–        نعم.

–        لقد حضنت بيته هنا كما رعيت تربتك.

–        فرحت الزنبقة بهذا الكلام.. صحيح؟ أتعرفينه جيداً؟ هل لامست ريشه؟ هل سمعت تغريده؟

–        نعم.

–        إذاً أنت تعذرينني في حبه.

–        لم ألمك أبداً.. ولكن أشفق عليك.

–        لماذا؟

–        لأنه وهم يا صغيرتي.. سراب خادع تقتلين نفسك فيه.

–        كيف؟

–        أنت زنبقة.. وهو طائر..

–        وماذا يعني ذلك يا أماه.

–        يعني أنكما مختلفان.

شعرت الزنبقة بموجات الأسى تمزقها.. وتتناثر أوراقها من هول الصدمة.. هل هي حالمة في كل حبها ومشاعرها؟ أم أن كل شيء في الكون يحسدها على طائرها؟

لم يكن الطائر بعيداً عنها في تلك الأثناء.. رأته يأتي من عمق الظلام.. يبتسم لها.. يحتضنها.. يخبرها عن غيابه..

–        أين كنت؟

ابتسم لها..

–        كنت قريباً منك..

–        لماذا تأخرت؟

–        الشتاء.. الشتاء يا صغيرتي.

–        أريدك معي.. أحتاج إليك.

–        وأنا أفتقدك.. ولكن لا أتحمل برد الشتاء.

–        …

–        سأعود ثانية.. أقسم أني سأعود إن استطعت.

–        سأنتظرك.

–        أريد أن أراكِ قوية.

–        تصنعت الابتسامة.. لا تخف سأكون قوية.

حلق ثانية.. وغاب في أستار الظلام.

–        يا طائري الحبيب.. سأنتظرك.. سأكون قوية بما يكفي.. لاتخف علي.. سأنتظر عودتك بعد الشتاء.

ذرفت الشجرة دمعة على هذا القلب المنكسر.. وقهقه الليل بفخر على صولته في نفوس المحبين.. وأضاءت النفوس بالطهر.. وارتقب الكون ليرى ماذا تحمل الأيام..

إنها الآن بوادر الربيع.. إشراقة الشمس الدافئة.. وتغريد الطيور العائدة.. وابتسامة الكون الفسيح.. لقد مر الشتاء بقسوته.. وأقبل الربيع بفرحته.. تحملت الزنبقة الشتاء وهي شامخة.. وهاهي ذي الآن تنتظر طائرها.

أنفاس تتسارع.. وخفقات تتزايد.. ونظرات تترقب.. لم تعد الزنبقة تعرف الأرض.. لأنها دائمة التطلع إلى السماء.. تشعر بالتعب والألم في كل جزء منها.. بدت أكبر من سنها بكثير.. انحنت ساقها.. وبدت ذابلة مجهدة..

انتبهت على صوت خفقة تعرفها.. وصوت يصدح بألم.. نظرت إلى السماء بفرح..

–        طائري.

–        حط الطائر قريباً منها.. ابنتي.

الحقل كله ينظر إلى هذا اللقاء الأليم.. كان الطائر متغيراً متعباً.. ذهب لونه الأبيض وفقد بريقه.. وغارت عيناه وبح صوته..

–        قالت له في عتاب.. تأخرت.

–        ليس بيدي.. هجرتي كانت بعيدة.

–        ابتسمت.. والآن سأكون مرتاحة.. أحتاج لدفء صدرك.

–        ضمها بقوة.. وسقطت عبرة لم يدري يدرِ لها سبباً.. شعر بأنفاسها المتلاحقة.. هل أنت متعبة؟

–        لا.. الآن سأرتاح.. تشنجت ساقها.. وتغيرت أوراقها.

–        ما بك يا صغيرتي.. لا.. لا ترحلي.

ابتسمت له..

–        سأكون قريبة منك دائماً.. لقد وفيت بوعدي لك.. وظللت قوية حتى عودتك.

–        همس الطائر في حزن.. لا ترحلي.

–        ابتسمت الزنبقة.. وبهدوء رحلت.

–        أمسك الطائر الحنون بأوراقها وبكى في صمت. وتردد البكاء في كل الحقل..

لم يرفع الطائر رأسه.. ظل قريباً من الزنبقة.. ثم صاح صيحة رددتها كل نبتة.. وحملتها كل نسمة..

الأيام تمر.. وهي كفيلة بأن تنسي الألم وتبدل الدمعة بالبسمة.. ويبقى في قلب الطائر وفاءً لزنبقته.. وقصة يرويها لأبنائه.. وترى الزنابق الصغار في الزنبقة الراحلة صورة من الوهم والوفاء.. ولكن يشار إليها في تقدير.. لن تنتهي الدنيا من أجل زنبقة ففي عالم الطير هناك قلوب كثيرة.. تحمل له صافي الود.. ولو تأملت الزنبقة لوجدت في عالمها الكثير.. ممن حفظ الوفاء للحبيب.. فنقش أطيب الذكريات.. وزرع أطيب الثمار..

في أسفل الشجرة الأم تجد نبتة صغيرة.. نمت فوق قبر العاشقين.. يسميها البعض نبتة الوفاء.. وأطلق آخرون عليه نبتة السراب. بينما يرى البعض أنها شاهد وفاء على محبة نقية.. يرى البعض الآخر أنها رمزاً للوهم والتعلق بالخيال.. وأياً كان اسمها فهي جميلة.. لأنها نتاج تجربة.. وثمرة معرفة.. وأنوار على طول الطريق..

حياة بدأت بهمسة وشوق.. وانتهت بعذاب ورحيل.. أشرقت شمس وأظلم أفق بعد مغيبها، وكل جيل يروي لمن بعده.. بداية ونهاية.. ألم وأمل.. أشواق وأشواك..

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)