التصنيفات
رسائل إلى نفسي

ذكريات

5/6/2011م

المنزل (الصالة).. الساعة 12:30 مساءاً

لي صديق يمني قريب من نفسي، قريب لبساطته وصدق لهجته، أتحدث معه بأسلوب لم أتحدث به منذ سنوات، كلمات الأخوة التي كنت أقولها لمن رحل لم أعد استخدمها، ولكنني معه أخرجها من لفافتها التي لففتها بها يوم أن ودعت آخر قلب في الطريق.

نتحدث عن الحنين للأرض، ولست ممن يحنون للمكان كثيراً، إلا مكاناً واحداً تنقلت فيه في سن الشباب وحملت منه أطيب الذكريات وأقوى الآلآم.. في البداية كنت أفكر بالألم فأهرب منه، ولكن “البيضاء” كانت تتغلغل في صدري دون شعور مني، ووجدت نفسي أستيقظ يوماً لأهرب من الألم إليه، ومن جبال البيضاء القاسية إلى ذكرياتها السعيدة.

هو مغترب مثلي، ولكنني جربت الهوى ولم يجربه، يحسدني؟! لا أدري.. ربما، في بعض الأمور لا ندري أيهما أشد ألماً، أن تعيش الحدث أم تفكر به.

أسمع صوت كلاب تنبح تجري خلفنا، ورجل منا خبير بهذه الأمور يحمل في يده أحجاراً، وكلما اقتربت الكلاب منا رمى حجراً خلفه دون أن يلتفت لها، فتجري تشم الحجر ثم تكتشف أنها خدعت فتعاود الهجوم عليها، ويتكرر الأمر مرة تلو المرة، وهو يخدعها لتعود تطاردنا ثانية، أملاً في لحظة غفلة تهاجمنا فيها وتنهش أقدامنا.

نمر على قرية يفكر أهلها في الغدر بنا، نبيت في سهر وقلق وتعب، ونتحرك قبل الفجر، أسمع صوت الليل وكائناته، ونسمات الفجر تلامس وجوهنا وقلوبنا المتعبة، وأشعر بالشوق لكل حجر مررنا به، لكل نهر قطعناه، لكل جرح أصبنا به.

بعض الحب لايفهم.. لاتدري لماذا يخترق قلبك، يأسرك، ثوب تعلم أن فيه حتفك وتصر أن ترتديه، لأنك تجد فيه الستر والسلامة، يحميك ويحتويك، ويمد يده لينقذك من نفسك ومن جاهلية تحيط بك.

استقيظ في الليل وأنا أردد ابيات غزل، كأنها بكل قساوتها وحقدها وألمها فتاة أتغزل فيها، أرسل لها قصائدي، وأمد يدي أخطب ودها.. لقد جربت الحب، ولم أتمكن من مجارات الآخرين في حبهم، حبي الحقيقي من نوع مختلف.. حبي الحقيقي لرفقاء الطريق، ولتعب الطريق، ولأشواك وأشواق الطريق.

هذه الروح المتمردة لم تعرف معنى الاستقرار إلا في الساحات، في الارتحال بين نقطة ونقطة، في المسيرة والعمل، لم تستقر إلا في غربتها، لم تجد الروح إلا حيث سكبتها، لم تحتضن السماء إلا عندما تخلصت من الأرض، لم تشعر بالأمان إلا حين هاجمت الخوف، إنه ثمن الغربة المعجل، نقبضه في الدنيا قبل أن تخرج أرواحنا، نرى السعادة في صفوف ميزتنا عن غيرنا، في ابتسامة ساذجة لانعرف بأس صاحبها إلا حين النفير.

رعاك الله يا أرضي، سقاك الله من دمنا، من الشوق المعطر بالأريج وبالدخان، يفوح بدربك البارود، يزكمنا ونبسم ملء أفواه تصر على محبتها.

(الصورة بعدسة: ريان المنصور)