التصنيفات
طائر المئذنة

حديث الحقائب

112

سمعت جلبة شديدة وتعالى صراخ الصغار.. ثم فتح باب السندرة القديمة وألقيت حقيبة، وأغلق الباب بقوة وساد الصمت ثانية.

كانت السندرة القديمة تمثل مخزناً لهذه المنازل النصف قروية.. وباستثناء كوة صغيرة مرتفعة لم تكن ترى النور إلا في مرات محددة من السنة، تمثل الفترات التي تهتم فيها الأسرة بتنظيف المكان وبالتخلص من بعض الأشياء القديمة لتوفير مكان لأشياء أخرى ستلقى فيها ذات يوم.

أثارت الموجة التي مرت قبل قليل بعض الغبار.. ثم بدأت الأمور تعود إلى هدوئها ثانية.. وعاد الغبار إلى التراكم ثانية على الأشياء المكومة هنا وهناك. حقائب متعددة المقاسات، قطع أثاث، أحذية مختلفة، مرآة مكسور طرفها تقبع مائلة في ركن قصي، وصناديق فيها ملابس شتوية لم يحن موعد استخدامها، وجرائد قديمة كانت مهمة ذات يوم، ومعاطف الصقيع معلقة على مسامير حديدية وقد علاها الغبار وبدأ العث يرتع فيها.

قطع السكون صوت ضحكة فتية.. فيما تململت الحقيبة الملقاة وبدأت تعدل من وضعها.. ثم التفتت إلى مصدر الصوت وسألت بغضب:

–        لمً تضحكين؟

ارتفعت القهقهة دون اهتمام بالسؤال.. فيما تململ صوتٌ عجوز مستنكراً الضجة..

–        ماالذي يجري هنا؟ لماذا ترتفع أصواتكم.

سمع صوتاً من الزاوية المظلمة في السندرة يقول:

–        يبدو أن هناك ضيفاً نزل علينا.. أهلاً بك أيتها الحقيبة الصغيرة لماذا تبدين غاضبة؟

ردت الحقيبة الصغيرة:

–        أريد أن أعرف لماذا تقهقه هذه الملونة؟

أجابت الملونة:

–        أهلاً بك.. اسمي ليلى، أنا حقيبة ألعاب الطفلة هناك في الأسفل. ضحكت لأنني شعرت بحالك.

–        وما المضحك المضحك في حالي؟ ردت الحقيبة بغضب.

–    كلنا هكذا حين نصل إلى هذا المكان.. نشعر بالغضب في البداية لأننا لم نتعود على الغبار.. ثم نألف الأجواء وسرعان مايصبح شعور الغضب نوع من اللامبالاة.

أخذت الحقيبة تسمح أثار الغبار عن جلدها وهي تغمغم بكلام لم يفهمه أحد.. ثم رفعت رأسها بنوع من التكبر وقالت:

–    ولكنني لست كالآخرين.. الأمر لا يعدو ظروفاً خاصة تمر بها الصغيرة، وسرعان ماستفتقدني وتعود لتبحث عني وتخلصني من الأشخاص غير المحببين.

ضحكت الحقيبة الملونة.. فيما رد الصوت العجوز بنبرة فيها عمق التجربة:

–    جميل، جميل أن يعيش الإنسان بالأمل.. وجميل أيضاً الثقة بالنفس. ولكن الأهم من الإحساس بالأمل هو أن نستمر نحيا به.. ونشعر بقدرتنا على العطاء بالرغم من كل الظروف.

رد صوت خافت من داخل أحد الصناديق..

–        لا عليك يا أماه.. هكذا كنت أقول في البداية، ولكنني اليوم سعيد باستقراري داخل هذا الصندوق..

ثم فتح الصندوق وأطل رأس صغير يشبه فردة حذاء طويلة العنق.. وتابع كلامه:

–    أتريدين الحقيقة.. الرضى بالصندوق أفضل من أسنان كلب تقبض علي، وتجري بي في الشوارع والمزابل، وتلقي بي في النهاية عند بركة ماء خلفتها الأمطار بجوار رصيف قذر.

ثم عاد وأغلق الصندوق.

–        ما الذي يجري هنا؟ ماهذا الكلام.. صاحت الحقيبة برعب.

–        ضحكت الحقيبة السوداء بحنان ثم قالت:

اقتربوا مني يا صغاري وأنصتوا إلي أقص عليكم قصة هذا المكان.

بدأت الحقائب والصناديق تلتفت إليها مصغية إلى قصتها.. فيما أخذت العجوز تروي.

–    في الماضي كان لهذا المكان وزن وقيمة.. لأنه كان محطة مؤقتة.. ففي الصيف توضع فيه أغراض الشتاء، وفي الشتاء تحفظ فيه أشياء الصيف، حتى يحين موعد استبدالها.. وكان الناس وقتها يهتمون باقتناء ماينفعهم.. ولأنهم يعيشون على الأرض فهم يقتصدون في كل شيء.

عالم الناس كعالمنا تماماً.. فلكل شخص مهمته أو وظيفته في الحياة.. تماماً كالوظائف التي نؤديها.. فالحقيبة التي تصلح للمدرسة لا تصلح لحفظ طعام الرعاة.. وهكذا لكل قيمته.

مع التطور بدأ يتغير هذا المكان.. وأصبحت تلقى فيه أشياء عديمة النفع، ثم يتم ترتيب المكان لتلقى في المزابل وتنسى.. وأصبح من يأتي هنا لأول مرة يشعر بالتذمر، ثم لايلبث أن يتعود فتخمد ثورته، ثم يصمت حتى يأتي يوم يعاد استعماله، أو يلقى خارجاً.

–        وماذنبي أنا؟

–    ليس لك ذنب يا صغيرتي.. كما أنه لا أحد لم أفهم؟ ذنب في هذا.. لقد تغير كل شيء.. فليس لكم قوة الأسلاف.. كما أنه ليس لنا منظركم البراق.

–        وهل.. هل.. سيرمون بنا؟

–        هذا يا صغيرتي يتوقف عليكم.

–        ماذا نفعل؟

–        حافظوا على جمالكم.. خيوطك الصغيرة إذا تمزقت من الحزن سيفسد مظهرك، وستفقدين قوتك.. وسيلقون بك حين تصبحين عديمة النفع. ولكنهم سينظفونك ويعززون خيوطك بخيوط أخرى إذا رأوا أنك لازلت صالحة للعمل، وأنك تحافظين على عطائك.

لم تظهر علامات الرضا على الحقيبة الصغيرة.. وفي الوقت نفسه سمع صوت اصطدم طائر صغير بالنافذة، حاول العبور ولكنها كانت موصدة.

قالت الحقيبة الكبيرة:

–    هذا الطائر على سبيل المثال، لم ييأس من محاولات الدخول هرباً من الشتاء.. مع أنهم هدموا عشه ثلاث مرات.. وسينجح حتماً.. على الأقل وجد لنفسه مكاناً تحت قرميد المنزل، ولن يلبث أن يجد طريقه من خلال الأخشاب. إن الحياة لاتنتهي.. هي هكذا دائماً.. تمنح من يجتهد فيها.

–        لكنها أنانية.

–    لا يا صغيرتي.. ليست كذلك.. هم من صنعك.. ويريدون الاستفادة منك.. قدمي لهم شيئاً مقابل الساعات التي عملوا فيها بين الآلات لأجل أن يخرجوك بمنظرك الحالي.

–        ولكن لنا الحق في الحياة.

–        نعم.. صحيح، وهم أيضاً يريدون الحياة.. وكلانا يكمل الآخر.. لكل منا قيمته.

قالت حقيبة زرقاء كبيرة:

–        أوه يا جدتي.. لازلت تكررين نفس الكلام.. ليس لهم من الخبرة مالك.. الأيام كفيلة بتعليم الناس.

ردت الحقيبة الصغيرة:

–         وماذا تفعلين أنت؟

–    أنا حقيبة الجد.. حين يسافر فإنه يتذكرني.. يأخذني، ينظفني، وأحياناً يصبغني لأبدو بمظهر الصغيرة. لقد جبت معه عديداً من البلدان، ورأيت كثيراً من الأشياء.

–        وهذه الملونة؟ أشارت إلى ليلى

–        ليلى حقيبة قماشية.. إنها للزينة أكثر منها للاستعمالات العملية. حين تقام الاحتفالات يأتي مقامها.

–        فاشلة..!! قالت ذلك بترفع.

فتح الباب فجأة واندفع صبي وطفلة يتعاركان:

قلت لكَ لاترم حقيبتي مرة ثانية.

–        وأنا قلت لكِ اتركيني وشأني.

–        أين ألقيتها أيها المتوحش؟

قال الصغير بتكبر..

–         لا أدري، حاولي أن تجديها بنفسك.

التفت الصغيرة إلى حيث تجمعت الحقائب بجوار الجدة.. ثم صاحت بفرح..

–        أوه ما أجمل هذا. انظر كل حقائبي هنا.

جرت نحو الحقائب ثم رفعت ليلى وشرعت تنفض عنها الغبار..

-لازالت جديدة، فقط تحتاج إلى تنظيف.

ثم أمسكت بالحقيبة الصغيرة:

– وهذه حقيبتي لقد وجدتها، لن تستطيع أن ترميها ثانية.

التفت الصبي إلى الصندوق وهناك لمح الحذاء البني.. لمعت عيناه في لهفة:

وهذا حذائي.. لقد وجدته..

سحبه بعنف وضربه في الجدار لينفض عنه الغبار.. فيما ارتفعت صيحة الحذاء المتألم. وقبل أن يخرج فتح النافذة ليجدد الهواء.. وليدخل الطائر الصغير.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

 

 

التصنيفات
رؤى

المصانع النابضة

7653803862_865cb6d5ca_o

بين الأسرة والإدارة، وفي محاولة ليس لربط الإدارة بعلم النفس أو بالأسرة، بقدر ماهي محاولة لضرب أمثلة من واقع نعيشه وفتح باب للتأمل في المحيط الذي نعمل في حدوده ونمثل بعض موارده.

الأسرة تشبه المصنع، ليس على الإطلاق لكي لا يعتب عليّ زملائي في المهنة ممن يعانون من ضجيج الآلآت. ويحاولون الهرب إلى أحضان أسرتهم حيث ينشدون الهدوء. ولكي أكون أكثر تخصيصاً فالأسرة تشبه وحدات الإنتاج، وكفلسفة إدارية أقول بان جميع وحدات المصنع هي وحدات إنتاج بصورة من الصور، فإدارة الإنتاج تنتج مواداً نهائية تمثل المنتجات التي تقدمها الشركات (المنتج النهائي)، وإدارة الموارد البشرية تنتج برامج خدمات وتأهيل الموظفين لتساعدهم على التفرغ للإنتاج (خدمات الموظفين والخدمات المساندة)، وإدارة المالية تنتج موازنات ومقارنات وسيولة تحقق الاستمرارية الآمنة للشركة (خدمات مالية ومسيرات). وإدارة التسويق تعمل خططها لإنتاج مبيعات وأنشطة إجتماعية، وهكذا فكل إدارات المصنع تعتبر وحدات إنتاج مع الفرق في طبيعة المنتج وعملية الإنتاج. ولكنها في النهاية تنتج منتجاً يحقق الربحية للشركة، والاستقرار للموظف، والفائدة للإقتصاد والمجتمع.

والأسرة بهذا المفهوم ليست بعيدة عن هذا الأمر، فهي تنتج استقراراً، وأمناً، ونمواً اقتصادياً واجتماعياً، ومعرفةً، وسلوكاً، وغير ذلك. ولأنني رجل أنادي بوضع المعايير التي تمكن من قياس الإنتاج ووضع ضوابط رقمية للنجاح فسأحاول أن أضع أمثلة للمعايير التي يمكن من خلالها قياس الأداء وتسهيل عمل المقارنة للأسر الكبيرة خاصة، فلكل عملية إنتاج معايير نقيم من خلالها أداء الإدارة فعلى سبيل المثال:

– المعيار الأول.. نوعية الإنتاج: وتشمل النوعية عدة معاني ومنها:

1. نوعية المنتج: كالحب، والعمل، والترفيه، والتنظيم، والتخطيط القريب والبعيد، وغير ذلك.

2. نوعية الإنتاج: وفي الأسرة تعني الوسائل المتنوعة لتقديم المنتج والذي هو عبارة السلوك السابق من حب وغيره، وتحديد البرامج الملائمة التي تحقق وصول المنتج إلى الشريحة المستهدفة، وضمان أقصى درجات الفائدة منه.

– المعيار الثاني.. كمية الإنتاج: ولكي نحقق التميز في الإنتاج لابد أن نراعي الآتي في الكمية:

1. أنه تلبي الكمية المنتجة الحاجة في الأسرة والتي تمثل (السوق المستهدف).

2. أن تكون الكميات المنتجة تحقق الربحية، أي أنها تغطي المصاريف التشغيلية لها، ومن هنا يبدوا لنا خطر غياب الفهم الأسري للإختيارات القرارات، والتقليد الغير متزن لما يدخل على السرة من تقاليد تصرفها عن المنهج الصحيح الواجب اتباعه. فتختار الأسرة منهجية غير ملائمة، ثم تكتشف إن استثمارها كان خاسراً.

– المعيار الثالث.. الجودة: ولا يكفي أن تقوم وحدات الإنتاج بعملها، بل لابد من تأكدها من أنها تسير وفق ضوابط المنشآت ومعايير الجودة، وإلا فإن هناك إدارة ستمارس عمليتها الإنتاجية هي الأخرى وأعني إدارة الجودة، وستقف على وحدات الإنتاج لتتأكد من جودة المنتج الذي ستقدمه، وسنجد أنفسنا بين عدة خيارات:

1. أن يكون المنتج ذو جودة عالية ويحقق التميز. فيكون له الأفضلية بين المنتجات التي تطرح في السوق.

2. أن يكون المنتج ضمن معايير الجودة، ولكنه ليس الأجود. فيخضع لجداول المقارنة وقد يفضل عليه غيره في حال وجود منافسة متميزة.

3. أن يكون في المنتج عيوباً تؤثر عليه ولكن قد يصلح للإستخدام في بعض الظروف الطارئة، أو لفترة زمنية معينة.

4. ألا يكون المنتج صالحاً. ولن يشتفع في هذه الحالة توفر كميات كبيرة منه، لإنها كلها غير صالحة، وكذلك لن تنفع الأساليب فالنية الطيبة لا تشفع في بعض الأوقات. وفي هذه الحالة سيتم التخلص من المنمتج، وتضخع الإدارة المنتجة للمسائلة إذا لزم الأمر.

– المعيار الرابع.. الخدمات: وهي من أكبر الأمور التي تمكن من التفريق بين شركة وشركة في حال تكافؤ المعايير السابقة، فزيادة الخدمات تتناسب طردياً مع حجم التنظيم في المنشأة، وكذلك تتناسب طردياً مع حجم الإقبال على المنشأة.

يمكن لمن تزوج بأكثر من زوجة أن يقارن بين أداء الزوجتين على ضوء المفاهيم الإدارية السابقة، وفي تصوري أن الأمر سيكون سهلاً ومقبولاً وعملياً لا يترك فرصاً كبيرة للعتب بسبب النقد الموجه. فالأمر بيد وحدات الإنتاج (أي الزوجات)، أن تعمل ضمن المعايير لتضمن الجودة والملائمة لمنتجها، وأن تدرس السوق والحاجات الفعلية لعملائها اللذين هم أفراد الأسرة. مع مراعاة:

1. المنافسة القائمة في محيط العميل.

2. الاحتياج الحقيقي للعميل.

3. طبيعة المنتجات المقدمة.

4. الوضع التنافسي والحصة السوقية أو الدور الذي تقدمه إدارتي ضمن الشركة التي أسميها الأسرة.

وأيضاً يمكن أن ننظر للأمر من زاوية أخرى.. فالأولاد وحدات إنتاج.. والأقارب وحدات إنتاج.. والوالدين وحدات إنتاج.

وأخيراً لماذا كانت مصانع نابضة ولم تكن مصانع حية؟

لأن الحياة تحمل العديد من الإجراءات وهي قد تكون شروطاً تعجيزية أو بمعنى أصح فيها صعوبة وتكاليف، ولكننا في الأسرة نقبل النبض فهو بلا شك يحمل منتجاً نحتاجه ونبحث عنه ونسميه (الحب).

 

(الصورة بعدسة: عبدالله الشثري)

 

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com