التصنيفات
طائر المئذنة

أرقام

أرقام

لم تكن تفهم شيئاً من تلك الأرقام المكتوبة على المرآة.. وكان هذا الأمر يزعجها كثيراً فقد تعودت أن تقرأ كل صغيرة وكبيرة في ذهن رفيق دربها، لكنها أمام مجموعة أرقام كتبت بالكحل الأسود على مرآة غرفة النوم شعرت بالعجز عن فهم حبيبها.

كانت الأرقام تزداد يوماً بعد يوم.. وكلما واجهته بسؤال عنها يكتفي بابتسامة ثم يغير الموضوع ولا يعطيها فرصة للعودة إليه.. وهكذا تجد نفسها في النهاية وقد خرجت من معركتها بابتسامة يمكن أن تكتسبها في كل مرة فمن عادته.. أن يحدثها وهو مبتسم.

هذه المرة شعرت بتأزم الأمر.. إذ وجدته بدأ في العمود الخامس من الأرقام المتسلسلة.. كانت تعلم أن كل رقم منها يعني يوماً من حياته فتسجيل الأرقام الجديدة هي أولى مهامه في الصباح إذ يمسك بقلم الكحل ويسجل رقماً قبل أن يغادر البيت متوجهاً إلى مكتبه.. ومع حرصه على تجنب الأمور التي تزعجها إلا أنه كان يصر على هذه العادة حتى امتدت خطوط الأرقام لتشكل أربعة خطوط بطول المرآة وخطاً بدأ في الظهور هذا الصباح ليكمل مشوار الغموض الذي بدأ وعجزت عن التعرف على معالمه.

قررت هذا اليوم أ ن تفاتحه في الأمر مرة أخرى، ولكنها لن تعطيه فرصة للصمت ككل مرة.. بل لابد من معرفة هوية الأرقام ولكنها قررت أيضاً أن تهيئ نفسها.. فهي تعرفه قوي الحجة إذا أراد النقاش.. وهذا هو سبب بقائها منذ أن استيقظت في مواجهة المرآة تحاول التفكير في الأرقام.

قطع تفكيرها صوت الهاتف لكن سرعان ماعادت إلى التفكير والتأمل في الهاتف الملقى بجانب السرير ترى هل هناك علاقة بين الأرقام على المرآة وبين أرقام المصاريف المتنوعة؟ الفواتير وماشابهها. ولكنها استبعدت هذا الخاطر لأنه لم يفكر من قبل في تدوين هذه الأشياء، وبالرغم من تكاسلها وعدم رغبتها في الحديث إلا أن الرنين المتواصل جعلها ترفع الهاتف لتنهي ذلك الإزعاج،جاءها صوت صديقتها وقريبة زوجها ندى التي تعرف الكثير من عادات زوجها وعاداتها وربما تساعدها في التفكير.

وصلها الصوت مبتسماً كعادته:

–        كيف أصبحت أيتها الكسولة؟

–        بخير ولله الحمد.. ليس كسلاً أنا مستيقظة من الصباح ولكنني أفكر.

–        فيم، يبدو أنه أمر مهم!!.

–        أفكر في عبداللطيف.

–        ماذا به؟

–        اسمعي سأقول لك شيئاً وحاولي التفكير معي ولكن لا تخبري أحداً.

–        منذ بضعة أشهر بدأ عبداللطيف في تسجيل أرقام على مرآة غرفة النوم.

–        أرقام ماذا؟

–        لا أدري.. وهذا هو سبب التفكير.. أريد معرفة سر تيك الأرقام.

–        ربما كانت أرقام هاتف مهمة أو غير ذلك.

–        لا.. فالأرقام أرقام تسلسلية.. بمعنى أنه بدأ من الرقم واحد واستمر الأمر وهذا الصباح وصل إلى الرقم 145.

–        غريب.. ما معنى هذا؟

–        نعم غريب وهذا ما يحيرني. فهو يسجل كل يوم رقماً واحداً فقط.

–        هل سألته؟

–        نعم.. سألته ولكنه اكتفى بابتسامة وهذه عادته إذا حدثته عن الأرقام.. وبعد ذلك يغير مجرى الحديث.

–        هل هناك أي تصور في ذهنك عنها؟

–        في الحقيقة لا.. ومما زاد فضولي حرصه على المتابعة.

ضحكت ندى ثم قالت:

–        تخشين من وجود امرأة أخرى.

–        لا أبداً.. عبداللطيف ليس من النوع الذي يفكر بهذه الطريقة.

–        تعجبني هذه الثقة.. ستريحك كثيراً.

–    في الحقيقة يا ندى هو رجل مثالي في تصوري.. يطلعني على كل أموره.. يشاورني في كل شيء.. إلا أنه في هذا الأمر لم يخبرني أي شيء من شأنه أن يساعدني.

–        غريب فعلاً.

–        نعم غريب.. أستطيع أن أقول إنني أفكر في أفكاره قبل أن يفكر هو فيها.. ولكن الأرقام …

وندت عنها صيحة أشعرت صديقتها بمدى ضيقها وانشغال تفكيرها.

–        وماذا قررت؟

–        أريد الحديث معه.. هل توصلت لشيء بخصوص الأرقام؟

–        في الحقيقة يا غيداء لا.. ظننت أن الأمر سيكون سهلاً.. ولكن أحتاج لوقت كي أفكر.

–        حسناً يمكنك أن تفكري، ولكنني لن أنتظرك بل سأفاتحه اليوم في هذا الأمر.

–        جيد.. ولتحذري أن تغضبيه.. وإن آثر الصمت فلتحترمي رغبته.. حتى لايحدث بينكما مشاكل.

–        لن يحدث شيء بإذن الله.

ثم دار حديث بسيط بين الصديقتين عن الأطفال والمنزل والأسرة التي سيعقد اجتماعها السنوي قريباً والمواضيع التي ستطرح في الاجتماع.

انتهت المكالمة عادت غيداء إلى مكانها أمام المرآة وبقيت تفكر، ثم قامت بهدوء إلى الهاتف وأدارت رقم عبداللطيف.

وصلها صوته السعيد:

–        أهلاً حبيبتي.

–        مرحباً حبيبي.. هل ستذهب إلى أي مكان بعد عملك؟

–        لا.. سأعود إلى البيت كالعادة.. هل تريدين شيئاً؟

–        أممم… أفكر أن أدعوك لتناول الغداء في الخارج.

–        وأنا موافق.. وبعد ذلك يمكن أن نتوجه إلى البحر لنكمل اليوم.. مارأيك؟

–        ممتاز.. إذاً سأهيئ أغراض الرحلة.

–        اتفقنا..

وصلتها ضحكته ثم تابع:

-ولكن أنا لا أقبل بأي مكان.. أريد مكاناً فخماً.

ابتسمت له ووعدته بمكان يعجبه ثم أغلقت السماعة وبدأت في ترتيب الأغراض.

وصل عبداللطيف في موعده.. ووجدها تنتظره ولم يضيعا وقتهما بل توجها مباشرة إلى مطعم صغير يقع على الكورنيش.. كانا قد زاراه من قبل ومع وجود منظرا لبحر شعرت بأن الجو مهيئاً لكي تفاتحه في الأمر.

–        عبداللطيف.

–        يا عيونه!

–        أريد أن أسألك عن الأرقام.

ابتسم لها وساد الصمت.. ثم رفع رأسه ونظر إليها:

–        لماذا تشغلك؟

–        لأنها أمر محير فعلاً.. لقد حاولت معرفتها ولكن …

–        ولكن انسيها فهي ليست مهمة لأحد سواي.

–        مايهمك يهمني.

بدا على وجهه أن يفكر في كلامها.. وتركته فهي تعرف أنه يمكن أن يخبرها إذا شعر بالرغبة في ذلك. ثم سألها:

–        هل ترين أنها أفسدت حياتنا؟

–        لا..لا.. لم أقصد ذلك.. ولكن لا أحب أن أشعر بوجود أسرار في حياتنا.

–        اسمعي غيداء.. لن تصدقيني إذا بحت لك بسرها.

–        أعلم أنك لا تكذب.. قل وسأصدقك.

بدا عليه التردد..ثم قال:

–        حسناً ولكن لا تناقشيني في الموضوع أبداً..اتفقنا؟

شعرت بالسعادة وقالت:

–        اتفقنا.

–    منذ فترة حصل بيني وبين أحد الزملاء موقفاً أزعجني.. وهذا الأمر طبيعي يمر بنا كثيراً.. ولكن المشكلة هي أنني لاأملك ماأدافع به عن نفسي.. ولذلك شعرت بالظلم.. ولأنني متعود على تجاوز هذه الأمور فقد قررت أن أصمت.

–        ثم؟

–        لا شيء.. ثم بعد ذلك بدأت أسجل الأيام التي مرت على هذه الحادثة؟

–        لمه؟

رفع رأسه ونظر إليها.. كانت نظرته بعيدة شعرت أن صاحبها لم يعد في العالم معها. ثم قال:

–        لأنني أريد أن أذكر نفسي أنني ظُلمت.

–        عبداللطيف.. أنت لا تحقد على أحد.

–        ليس حقداً..ولكن هذا الأمر سيبقيني بعيداً عن الناس.. لست في حاجة إليهم.

حاولت أن تتابع النقاش..ولكنه ابتسم لها ثم قال..

–        لاتنسي اتفاقنا.

ابتسمت وصمتت.. ولكنها في نفسها كانت تفكر.. أي قسوة هذه هي التي جعلت عبداللطيف يفكر هكذا.. لابد أنه جرح جرحاً بليغاً.. كم هي الأمور التي نخسرها في حياتنا بقسوتنا على من حولنا.

انتهى الكلام في الأرقام.. وعادا يتحدثان عن أمور حياتهما.. كانت تعلم أن الأيام ستنسيه.. أو على الأقل لن يبقى في نفسه شيء.. ولكنها تعلم أن هذا الجرح سيظل ينزف في قلبه الرقيق.. وتعلم أيضاً أنه سينسحب؟ من جرحه إلا أنه سيرحل بعيداً..بعيداً عن دنيا البشر.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

التصنيفات
رؤى

البيادق

 8975858457_5b57350069_z

كتبت سابقاً عن الشطرنج.. ليس من حيث الحل والحرمة وإن كانت هي الأصل، ولكن من ناحية أخرى هدفت من خلالها العيش في آفاق تربوية تأملية. وقد لقي الموضوع صدى متبايناً في نفوس الكثير.. فعاش البعض في آفاقه وبقي البعض يفكر ويعيد النظر في المعاني، فيصل لأمور ويبتعد عن أخرى ويتقلب في رحال الموضوع.

اليوم أعود ثانية للشطرنج.. ولكن ليس للرقعة بل للبيادق، أي لاعبي الرقعة. فإن كنا قد قلنا أن حياتنا تشبه رقعة الشطرنج في بعض جوانبها فإننا من ناحية أخرى لابد وأن نكون بيادقاً نتحرك ضمن إطار الرقعة.

الحركة المختلفة للاعبي الشطرنج تغطي الحركات المحتملة لدينا.. فالمسير البطيء الثابت في المقدار والاتجاه.. أو الوثوب في حركة جانبية وتخطي كل العراقيل.. والمشي بشكل قطري وضمن إطار واحد ثابت في الشكل والمضمون.. والحركة الحرة في كل اتجاه وبأي مقدار.. كل هذه حركات سنراها من خلال أقل معرفة ونتعرف عليها وعلى نتائجها.

–       يمثل الجندي أقل التحركات.. إذ يتحرك في اتجاه واحد وبخطوة واحدة. ولكنه من خلال هذه الحركة توفر لنا:

* التغطية لمن بعده من البيادق القوية.. وهو بهذا يعطي صورة للتضحية في واقعنا، نتعلم من خلالها نموذجاً متميزاً للجندية المنتجة المضحية. فما ضر أن يتنازل من أجل بيدق هو في الحقيقة أكثر نفعاً.. وما ضر أن يعترف بأنه أكثر فائدة.

* التقدم وإحراز النتائج.. وامتلاك مربعات جديدة، وإضافة حدود جديدة لي.. فعلى الرغم من البطء والمحدودية إلا أن التأثير موجود.. فلا يحقرن أحد دوره في الحياة.. فالكل يعمل، والكل يبذل.. ولو كان البذل يسيراً فإنه سيثمر.

بل ربما تزداد الثمرة بوصول الجندي إلى آخر الرقعة.. وهنا تنتهي مهمته.. وتكتمل رسالته.. ويصل لدرجة أعلى من البذل حين يعيد إلى الساحة بيدقاً آخر يكون قد أصيب في مرحلة من مراحل اللعبة وخرج، يعيده ليواصل العمل.

* القضاء على بعض بيادق الخصم.. ليمهد حركة البيادق الأخرى التي تقف بجواره.. ولينهي تحركات خصمه.

وبودي أن نتأمل في الرقعة.. فلكل حجر دوره في المعركة.. وبينما تقف البيادق الكبيرة في الخلف.. نجد هذا البيدق قد وقف شاهراً رمحه في وجه عدوه.. ضاغطاً على أسنانه في عزيمة وإصرار.. وباذلاً في صمت نتعلم منه.

–   ونرى القلعة قد احتلت أطراف الرقعة.. وبحركة حرة غطت الأمام والجانب.. موفرة حماية لبقية البيادق ومشكلة خطراً يعرفه أهل اللعبة.

–   ثم ننتقل إلى الفيل وحركته القطرية الغريبة.. وظاهرة التخصص في الحركة.. وتغطية جانب معين من الساحة.. ومع أن أحدهما يتحرك ضمن المساحات السوداء فقط إلا أن النتائج المشرقة التي يحرزها، وكذلك المصالح التي يحققها تجعله يبقى في مكانه المظلم راضياً.. وكأنه في واقعنا يقول بأن لابد من رجال يعملون في الليل لينام المجتمع آمناً.. كما ولابد أن يعمل أشخاص في الظلام ليحمي الآخرين ولتبصر الأمة النور.

–   الحصان.. لاشي يقف في وجهه فحركته المتميزة تؤهله لتجاوز أي عقبة أمامه.. تماماً كما يحدث في حياتنا.. حيث يستطيع البعض تجاوز العقبات الموجودة.. وهذا التجاوز في الحقيقة يحتمل أن يكون بطريقة مشروعة صحيحة.. ويمكن أن يكون بطريقة أخرى غير شرعية.. ويحكم الأمر هنا إيمان الشخص.. وتؤثر الهمة كثيراً في حياة البعض.. الكل يمكن أن يكون حصاناً.. ولكن البعض يحب أن يبتعد عن الأمور العالية.. ويرضى أن يكون دائماً في الأرض.. فروحه لم تألف التحليق.

–   وبنقلة واحدة فقط نصل إلى الوزير.. ذلك البيدق الجبار، الذي يتحرك في كل الاتجاهات.. فليس لصلاحيته حدود.. فهو وثاب دائماً.. ومصدر خطر كبير.. ولذلك فهو مؤثر، ويستحق بجدارة أن يكون موضع ثقة الملك.

–   وأخيراً نصل إلى الملك.. ومع أنه أقل البيادق حركة.. إلا أنه أكثرها تأثيراً.. فهو الموجه والإداري.. وباسمه تتحرك كل البيادق.. وبنهايته تنتهي اللعبة.

والآن..

رحلنا مرة أخرى مع الشطرنج.. ولو تأملنا قليلاً لوجدنا في كل شي حولنا رابط يدفع لعمل.. ولكن لمن؟ لعالي الهمة..

 

(الصورة بعدسة: Fer Montero)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com