التصنيفات
طائر المئذنة

المهرجة

  

 

 

 

–        نعم أستطيع ذلك..

وأشارت برأسها لتأكيد كلامها.. كان كل شيء يتفاعل ليؤكد قدرتها على تنفيذ المهمة.. عيناها الذابلتان.. شفتاها المرتعشتان، يداها تشيران في عصبية وتوتر، وابتسامة منكسرة توحي بقرب الدموع… بهدوء نظرت إليها المديرة.. ثم نفثت في وجهها دخان سيجارتها وأجابت بابتسامة خليعة:

–        حسناً.. الوظيفة لك.. لنرى مايمكنك عمله.

خرجت سميرة وهي سعيدة ودموعها تجري.. كان الشتاء قارساً ومع ذلك لم تشعر بالخوف من زمهريره، فعلى الأقل لديها وظيفة تؤمن بها كسوة الشتاء لصغيريها.. بدأت حبات المطر تضرب وجهها النحيل في قسوة.. ومع ذلك كانت تمشي بسرعة دون أن تفكر في الاحتماء من هطوله.. أرادت أن تصل إلى بيتها في أسرع وقت لتقابل صغيريها وتقبلهما.. المسافة بينها وبين بيتها بعيدة، لكنها لاتملك أجرة المواصلات.. كانت سميرة فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، تزوجت منذ خمس سنوات، وأنجبت ولدا وبنتا، ولكن سامر لم يعش طويلاً ليرى نمو صغاره، فقد غادر الدنيا إثر حادث قتل قيد ضد مجهول. وهكذا وجدت سميرة نفسها وحيدة تصارع الحياة من أجل ولديها.

في بداية حياتها قررت البقاء قريباً من والديها، ولكن كثرة الأفواه وقلة الدخل جعلاها تشعر بالثقل والعبء.. ومع أن أسرة زوجها كانت ميسورة الحال إلا أنها لم تستطع البقاء معهم بسبب نظرات الأب القاسية، وكلمات الأم الجارحة.

شعرت بالبرد فأحكمت شد معطفها على صدرها.. وبدأت تسعل، هذه الآلام تعاودها منذ سنتين.. انتابتها بعد عملها في مصنع المطاط.. كانت أجواء العمل متعبة، فساعات الدوام طويلة وعوامل السلامة رديئة.. شعرت بمرارة وابتسمت.. ففي النهاية كان لابد من التخلي عنها والاستغناء عن خدماتها بسبب حالتها الصحية.

وصلت إلى بيتها وتوجهت مباشرة لغرفة جارتها لتأخذ الأطفال منها. تقيم في هذا المنزل منذ سنة ونصف.. هنا في الأحياء الخلفية من المدينة عالم آخر، عالم مليء بالمتناقضات، ففي الحي الواحد يقيم طيبو القلوب ويجاورهم المجرمون، وثمة ثمن لهذه المجاورة، يدفعه الضعفاء من دموعهم وجيوبهم، وأحياناً من أعمارهم.

–    قرعت الباب وانتظرت للحظات قبل أن تسمع وقع الأقدام الثقيلة وهي تقترب من الباب.. ثم فتح وظهرت امرأة بدينة قد عقصت شعرها إلى الخلف وارتدت قميصاً قذراً، تبتسم ابتسامة احتقار وهي تلوك قطعة “علك” ضخمة.

–        بادرتها بالسؤال.. هل وجدت وظيفة هذه المرة؟

–        نعم الحمد لله وسأباشر في الغد.. قالت سميرة بفرح.

–        حسناً.. لقد زادت الفواتير عليك، ولابد أ ن تدفعي المتأخرات.

–        سأدفع لك كل شيء.. أشكرك على اهتمامك.. هل تعشت وفاء؟

–        نعم.. لقد أطعمتها.

–        وماذا عن أمين؟

–        هو بخير.. لن أكون موجودة في الغد.. لابد أن تتدبري أمرك.

شعرت بالارتباك.. وأجابت بتلعثم:

–        ولكن غداً هو أول أيامي في العمل، ماذا سأفعل؟

نظرت إلى السقف بلا مبالاة ثم قالت:

–        إذا كان الأمر مهماً فسأجلس ولكن يجب أن تضاعفي الثمن.

ارتبكت سميرة، ثم أجابت في استسلام:

–         حسناً، سأفعل.

عادت إلى شقتها تحمل طفليها.. كانت مظلمة ورائحة الرطوبة تملأ المكان.. أضاءت النور في حين بدأ الطفل في التململ.. حتماً سيبكي الآن.. إذاً هو جائع. شعرت بمرارة، كانت تعلم أن جارتها تستغلها، ولكن لاحيلة لديها.. هي مضطرة لتحمل الوضع هكذا.

في الصباح انطلقت مسرعة من منزلها.. أطعمت صغيريها.. ابنتها وفاء متعجبة وهي ترى أمها ترتدي ملابسها للخروج في ذلك الوقت. سلمت صغارها لجارتها وانطلقت إلى المدرسة.. كان عليها ارتداء ثياب العمل للبدء في أولى مهامها.. وجدت المراقبة قد وصلت إلى الموقع قبلها.. نظرت إلى ساعتها  وسجلت شيئاً في أوراق كانت تحملها، ثم طلبت منها التوجه إلى سيارة الشركة لأخذ الملابس الخاصة.

كان عليها أن تقوم بدور أرنب يلاعب الصغار.. وجدت في حقيبة السيارة حقيبة كبيرة رسم عليها أرنب وردي.. أخذتها، وسارعت بارتدائها، واقتربت من فناء المدرسة.. وبمجرد أن رآها الأطفال أخذوا يتدافعون واصدموا بها حتى كادت أن تقع.. شعرت بالسعادة لهذا الجو، تذكرت صغيريها تمنت أن يكونا هنا مع الأطفال.. ربما تعجز عن اصطحابهم معها.. أخفى القناع الباسم الذي ترتديه دموعها.. لاتدري لماذا بكت.. من أجل أطفالها، أم حزناً على نفسها.

ارتفع صراخ طفل بسبب التدافع.. اقتربت منها معلمة مراقبة، نهرتها، طلبت منها الوقوف بعيداً عن الأطفال.. تنحت جانباً، اقتربت منها المراقبة وعادت لتسجيل شيء في أوراقها، ثم طلبت منها أن تخلع الرداء وتتوجه إلى مكتب مديرة المدرسة.. لم تفكر كثيراً في السبب. توجهت مسرعة إلى هناك..

–        أوه يا عزيزتي.. يؤسفني أن أبلغك هذا الخبر.. لقد اعتذرت المدرسة عن مواصلة البرنامج.

–        شعرت بالصدمة ولم تدر ماتقول.

تابعت المديرة..

–        ولذلك يمكنك أن تراجعي المراقبة لتصفي معها حقوقك.

–    أرادت أن تجيب.. ولكنها لم تجد شيئاً يمكن أن تقوله.. استدارت في صمت وتوجهت إلى الخارج.. كادت أن تسقط على الأرض.. لم تتوجه إلى المراقبة، غادرت المدرسة وأخذت تسير في طرقات المدينة على غير هدى.. الجو مكفهر ينذر بالمطر.. بدأت حبات المطر تتساقط.. الهواء البارد القادم من البحر جعلها ترتجف.. نظرت إلى حذائها، أصبح ممزقا ولكنها لم تفكر في تغييره..

وصلت إلى بيتها.. وفي صمت أخذت طفليها ولم تجب سؤال جارتها عن موعد السداد.. ذلك المساء شاهد القمر ثلاثة أشباح يلتحفون الظلام.. من هم؟ أين ذهبوا؟ ماذا حصل لهم؟ لم يجد القمر إجابة.. وطوى البحر الأسئلة.

 

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

4 تعليقات على “المهرجة”

مؤلم جداً ..
أشفقت عليها كثيراً عندما فهمت طبيعة وظيفتها ،
لكن عندما فقدت الوظيفة أشفقت أكثر !! ..

أجزم أن المجتمع يحتضن نسخ مكررة من سميرة
تحتاج لمساعدتنا ..

شكراً جزيلاً أستاذ .

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.