التصنيفات
أكواخ الظلام

أكواخ الظلام

اكواخ الظلام copy

كانت حجرة علوية باردة.. يضيء ظلامها نور القمر إذا أكتمل.. وشمعة تشتعل في خجل فيتوارى ضوئها على بقايا الأشياء التي لا تأخذ من الحقائق إلا اسمها.. سرير هو في الحقيقة قطعة خشب صلبة يتعب الرجل القوي من الاستلقاء عليها.. غطيت ببعض المتاع مما يسمى ملاءة وما شابه ذلك.. ووسادة خشنة غير متساوية.. وصندوق وضع بجانب السرير ليكون خزانة صغيرة للطوارئ.. وصندوق أكبر قليل رصت فيه أسمال فتاة في التاسعة من العمر.. ثوبان باليان يطل منه جسد الصغيرة من أكثر من موضع.. ومنضدة أقل اهتراءً وكرسي أكثر صلابة من السرير.

الجو بارد في هذه الأيام من السنة.. وخوفًا من نشوب الحرائق في العلوية لم يكن هناك موقد للتدفئة.. واكتفى أصحاب البيت بزيادة عدد الأغطية فوق جسد الصغيرة.. وهكذا تمر ليالي الشتاء.

–     مرحبًا رُبى.. انتهيت من أداء واجباتي هذا اليوم.. وقلبت بين يديها دمية صغيرة ذات شعر أسود ووجه يرتسم عليه شبه ابتسامة.. بدت تلك الابتسامة لا تخص أحدًا سوى “سحر”.. ترتدي أثوابًا بدت فيها أثار العناية.

–     في نهاية الشتاء سيأتي العيد.. في العيد سأصنع لك ثوبًا جديدًا.. واكتسى وجه الصغيرة بموجة من الحزن.. ولكن يا رُبى لا يوجد لدي قماش جديد لأخيط لك الثوب.

–          هل ستغضبين مني؟؟ لا أحب أن يأتي العيد.. لأنني أبكي فيه كثيرًا.

–          أتذكرين العيد الماضي؟.. لم يكن لدينا ما نرتديه.. فقط الملاءة الكبيرة استطعت أن ألتقطها من المهملات.. وصنعت لك ثوبًا وجوربًا.

–     وعادت سحر إلى الابتسام من جديد.. هذه السنة يبدو أن السيدة الكبيرة ستغير بعض الأثاث.. سأحاول أن أصنع لك سريرًا صغيرًا بجوار سريري.. سيساعدني العم صالح في توفير بعض قطعه.

–     أحست الفتاة بلذعة الشتاء.. فارتعدت وضمة رُبى إلى صدرها وقامت إلى النافذة.. كان القمر مكتملًا.. أطفأت الشمعة توفيرًا لها.. فقد تعودت أن ينتهي الشمع وتبقى أيامًا في الظلام.

–     أترين القمر يا رُبى.. يشبه العم صالح.. انظري إليه.. وأجلست رُبى على طرف النافذة.. وجهه يشع بالنور.. وأطفاله الصغار يجرون حوله.. وهناك في وجهه تجاعيد تمامًا كما في وجه العم صالح.. ترى هل يشعر هو بالتعب أيضًا.

–     دخلت وأغلقت النافذة.. وعادت تلاعب الدمية.. ثم عادت مسحت الحزن إلى وجهها البريء.. هل تناولت طعام العشاء؟ اليوم حرمتني السيدة من الغداء لأنني لم أنظف غرفة الجلوس كما ينبغي، وبختني كثيرًا وقرصتني في أذني حتى آلمتني.. خشيت أن أبكي أمامها فتضاعف العقوبة.. ولكنها عادت فضاعفت كمية الخبز التي أخذها في العشاء.. أعطتني خبزة كاملة.. بدت لي لطيفة هذا المساء.

–     لقد بدأت تكبرين يا رُبى.. وستذهبين إلى المدرسة هذا الصيف.. ولأن أمك لا تعرف الطريق إلى المدرسة فسأقيم لك فصلًا خاصًا بك هنا.. وسأعلمك الحروف والكلمات.. عندها يمكنك أن تكلميني في الليالي المخيفة.

–     أنا لن أذهب إلى المدرسة هذه السنة أيضًا.. سمعت السيدة الكبيرة تقول أن مصاريف المدرسة كثيرة.. كما أن المرض منتشر هناك.. ولكن لماذا لا يصيب المرض “رنا”.. ربما لأنها سمينة يمكنها أن تتحمل. ولكن أنا ضعيفة. لا يهمني كل هذا.. لقد علمني العم صالح الحروف.. كما أنني أقضي ليلي معك تمامًا كما تفعل رنا إذا ذهبت إلى المدرسة.

–     رُبى.. أشعر بالجوع وتغيرت ملامح الصغيرة.. وانعكست في عينيها دمعة حاولت أن تقاومها.. وكذلك بدأت أشعر بالبرد.. وانطلقت الدمعة لتنحدر على خديها الباردين.. وضمت رُبى إلى صدرها بقوة.. لعلها أرادت أن تدفئ صدرها الصغير.. أو لعلها أرادت أن تدفئ رُبى.. وبدأت دموعها تسيل.

–     اشتقت لأمي.. لقد قالت السيدة أنها ستعود لتأخذني معها.. قالت أن الأموات يأخذون الأطفال الكسالى.. أنا لست كسولة يا رُبى.. ولكني أريد أن أرى أمي.

–     أنت سعيدة لأن أمك معك.. وابتسمت لها.. ومسحت الدموع من عينيها.. اليوم سألني العم صالح عنك.. قلت له أنك تكبرين.. وابتسم لي.. قال أنك ستكونين جميلة مثلي.. رُبى.. ما معنى جميلة؟ وما لفرق بيني وبين رنا؟ هي تلبس دائمًا أشياء ثمينة. وملابسها بدون رقع.. ولا يظهر شيئًا من جسمها من تلك الفتحات.. وهي لا تعرف المطبخ.. وتضربني.. إنها قاسية.

–     اسمعي يا رُبى.. إذا ذهبت لأمي سآخذك معي.. ستحبك كثيرًا.. أنت تشبهيني وأمي ستحبك كما تحبني.. العم صالح سيوصلني إليها.. لماذا من يذهب إلى الموت لا يعود.. فقط يذهبون ولا يرجعون.

–          سأقول لأمي أنها تأخرت كثيرًا.. وإنني بكيت كثيرًا.. وارتجفت من البرد.. وآلمتني قدماي.. وإن السيدة العجوز كانت تضربني وتحبسني.

–     لا.. لن أقول لها ستبكي من أجلي.. لا أريدها أن تبكي.. ولكن سأقول لها أنني كنت ألعب معك.. وأن عندي ثوبان جميلان.. وأن العم صالح كان يعطيني قطعًا من اللحم الجاف لآكله مع الخبز. ستفرح كثيرًا.

–          قولي لي.. أتعرفين قصة التفاحة؟

–     سأقصها عليك.. يقولون أن التفاح يتكلم.. ولكن نحن البشر لا نفهم لغته.. ولكنه مثل البشر يختلف في طباعة.. تمامًا كما تختلف ألوانه.. هكذا قال العم صالح.. وقال أيضًا أنني من التفاح الجيد.

–     هل تريدين النوم.. بدأت تبردين.. سأضعك في سريرك.. هذا سريرنا معًا وابتسمت في رقة.. واستلقت على السرير مع رُبى.. نظرت إليها في الظلام ووضعت إصبعها الصغير على أنف الدمية.. انتبهي من البرد.. هل رأيت المدفأة؟

–     إنها تحمل الكثير من الحرارة.. أتمنى أن يكون عندي واحدة مثلها.. هنا كل شيء بارد.. حتى الأخشاب أشعر أنها باردة.. ولكن السيدة الكبيرة قالت أن المكان هنا جميل.. إذًا لابد أن أقبل وأصمت.

–     ضمت دميتها وابتسمت.. هيا نامي سأعمل كثيرًا في الغد.. ولكن سأحاول أن أزورك في ساعات النهار.. ربما لا يمكنني الجلوس معك، ولكن يكفي أن أقبلك يا حبيبتي.

أشرقت الشمس على الغرفة العلوية.. ولم تتحرك الصغيرة.. ذلك أن الليل ولى آخذًا معه روح الصغيرة.. وبقيت معانقة دميتها لتحفر في قلوب الناس صورة من الظلم مقيتة.. أقبل النهار بدفئه. والصغيرة في ملكوت الله تحلق.. الموتى لا يرجعون، لأن الأخيار يجدون حياة طيبة.. وأنسًا ونعيمًا.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

رخصة المشاع الابداعي
هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نسب المصنف – غير تجاري 4.0 دولي.

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.