التصنيفات
أكواخ الظلام

الطفولة والطبقات

هذه المرة سأخرج من عيادتي.. ربما لم يكن خروجي منها مقصوداً.. ولكن الموقف فرض نفسه.. ولا أدري حقيقة لماذا أسجل هذه المواقف.. ومع أني أحاول عدم التدوين لأي موقف إلا أنني أفاجئ نفسي وقد سجلت موقفاً على قصاصة ورق ليكون فيما بعد ورقة من مذكراتي..

التفكير في المجتمع ومعاناته ليس دوراً يتكلفه الطبيب.. بل هو من أهم أدواره في الحياة.. ولأنني طبيب فنظرتي للأمور تتأقلم مع تخصصي.. وكثيراً ما تتحكم في هذه النظرة بغض النظر عن صحتها أو خطئها.. ومن هذه النظرات على سبيل المثال الطبقات الاجتماعية.. وسأذكر موقفاً حصل لي وأنا أحضر رسالة الدكتوراه في دولة أوربية.

تتفاوت الطبقات الاجتماعية في أي مجتمع بين غني وفقير.. وبين ذلك.. وفقير جدا وتحت الفقر أحيانا، أي شيء لا يمكن وصفه بالفقر وكذلك العكس، تباين طبقي شاسع يراه الإنسان في هذا الدنيا الغريبة. ويتفاوت تفكير الناس.. وطرق معيشتهم.. وتعاملهم مع قضايا يومهم.. وطموحهم.. وأمانيهم.. وهذا كله شيء طبيعي.. فقط نوع واحد من الناس يتشابه في تفكيره وفي حياته بالرغم من اختلاف طبقته.. إنهم الأطفال.

يحملون في صدورهم الصغيرة نفس القلب.. وتختفي خلف ملابسهم الثمينة وأسمالهم البالية نفس الروح.. وبغض النظر عن المستوى المعيشي فإن سلوكهم يتشابه على الأقل في بداية حياتهم.

هناك على رصيف بجوار السوبر ماركت وجدت امرأة تفترش الرصيف.. يؤلمني هذا المنظر.. يجرحني.. يقتلني.. ولكن لا حيلة لي في دفعه.. كان معها طفلها ذو الثلاث سنوات.. بأسماله الممزقة القذرة.. ووجهه الأسود المتسخ.. ونظرته البريئة.. نظر طفلي إليه وابتسم.. هم في نفس العمر تقريبا.. وابتسم الصغير.. هناك فرق بينهما.. فرق من ناحية المظهر.. والاهتمام.. والرعاية.. لكن في تلك اللحظة والابتسامة المتبادلة ذابت كل الفروق.. تركت ابني معه وبقيت أراقبه من بعد.. يلعبان معا في براءة.. يبتسمان في براءة.. آه من الخوف من الأيام.. ترى أي شيء يخبئه لنا القدر.

فكرت في الأم.. خلف هذا الصدر يختفي قلب يشعر بالحب.. ويمتلئ بالعاطفة.. يأنس ويفرح ويخاف.. يحب ويكره.. يرضى ويغضب.. لا نشعر بهذا الشي لكنه صحيح..

نظرت إلى الأطفال ثانية.. سواء أصابني القرف من منظر الصغير أم لا فإن هناك قلبا يحبه بكل مشاعره.. يحبه كما هو.. يطير فرحا برويته.. يبني آمالا.. وينتظر له مستقبلا.. أي مستقبل المهم أنه يفكر بمستقبله.

يا إلهي.. كم أخشى ألم هؤلاء المساكين.. وكم أخاف أن تصيبنا نقمة نتيجة بعدنا عنهم وعدم إحساسنا بهم.. أفقت من تأملاتي.. وناديت ابني.. وبنظرة منكسرة ابتعدت عن الصغير.

  • استوقفني ابني.. وجاء يركض إلي.. أبي اشتري لمحمد لعبة لكي يلعب بها.
  • أعطيت ابني نقوداً وطلبت منه أن يختار هو اللعبة التي يريد.

وبدأ ابني يعدد أسماء الألعاب المعروضة وفي النهاية وقع اختياره على سيارة صغيرة.. وكرة متوسطة الحجم.. وانطلق ثانية لكي يقابل الصغير على باب السوبر ماركت. رأيته يلتفت يمنة ويسرة فأحسست بقلبي ينتفض في صدري.. وبدأت التساؤلات تتوارد على ذهني المكدود.

  • عاد ابني وعينه محمرة يكاد الدمع أن يطفر منها.. أبي، لقد رحل.
  • ضممته لصدري.. خففت عنه.. لا تهتم يا صغيري سيعود غداً ونأتي لكي تقابله وتعطيه الألعاب.

هل يحمل الصغار في صدورهم قلوباً أكثر حياة من قلوب الكبار؟؟ هل تتحجر القلوب إذا زادت أعمارنا؟؟وصلنا إلى المنزل.. وانطلق طفلي دون أن يتفوه بكلمة واحدة.. وذهب إلى غرفته.. تعجبت أمه منه..

  • سألتني ماذا أصابه؟
  • اسأليه.
  • ذهبت إلى غرفته.. جلست بجواره على السرير كان حزيناً.. مابك.
  • لم يرد عليها ولكن عينه المحمرة كانت تحكي الكثير.
  • هل أغضبك أبوك؟
  •  هز رأسه نافياً..
  • إذاً لماذا أنت حزين؟

وبكلمات الأطفال أخذ يشرح لها موقف الصديق الجديد الذي قابله ولعب معه قليلاً.. ثم اختفى حين ذهبنا لنشتري له لعبة.

عادت الأم إلي وقد أصابها الحزن.. لا أدري أهو الحزن على الصغير الذي لا نعلم مكانه وكيف سيبيت وماذا سيأكل؟؟ أم الحزن على صغيرها الذي بدا متأثراً ومفتقداً له وهو في غربة ولا يملك الكثير من الأصدقاء.

  • مابك؟
  • ردت علي في هدوء.. لا شي.. فقط أفكر في الموقف.
  • وفي ماذا تفكرين؟
  • نظرت إلي طويلاً ثم أجابت.. كيف فكر الصغير في هذا الأمر بهذه الصورة؟
  • كنا نتوقع أنهم لا يفهمون هذه المشاعر.
  • نعم صحيح.. أو على الأقل نعرف أن الأطفال يحبون التملك ويفكرون في أنفسهم أكثر من غيرهم.
  • للقصة بقية يا عزيزتي لم يرها طفلنا.
  • التفتت إلي مندهشة.. وماهي؟
  • لم يغب الغلام بإرادته.. ولكن …
  • … ولكن ماذا أكمل.
  • لقد كان في الساعة التي خرجنا فيها من السوبر ماركت يبكي ويضم أمه.
  • … ماذا حدث لها؟
  • المرأة فقيرة.. والجلوس في تلك المنطقة ممنوع.. وصاحب السوبر ماركت على مايبدو لا يرغب في جلوسها فبلغ عنها رجال الأمن فطردوها.

صمتت زوجتي وفي عينها نفس النظرة التي كست نظرة صغيري.. أما أنا فقد أصابني الصداع.. واقع متشابه ومختلف، والنتيجة … ألم وقسوة.. وربما نرى في مجتمعاتنا وواقعنا صوراً تشبه هذه الصورة.. نعم من حقه أن يعيش.. ومن حق أمه أن تحلم.. وإن كنتَ عاجزا عن قبوله فاتركه لا تجرحه.. ولا تجرح أمه.

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.