التصنيفات
طائر المئذنة

عصا الغريب

الوقت منتصف الليل.. ونسمات باردة تداعب خصلة شعر تدلت على جبين الغريب.. وابتسامة منكسرة ترتسم على شفتيه.. ونظرة بعيدة ساهمة تروي قصته.. وعصا من خشب الزان تعانق ظلال نار ملتهبة. وأصوات مختلطة تمزق صمت الليل.. ذئب يعوي في البعيد.. حطب تأكله النار.. وصوت رياح خفيفة يضفي رهبة على المكان..  أحس بالبرد يلامس ظهره فارتجف.. ضم رجليه إلى صدره واتسعت ابتسامته.. ورحل مع الذكريات.

يريد أن يشعر بالاستقرار.. تذكر بداية قصته.. تخرجه من الثانوية وانتقاله للدراسة في مدينة أخرى.. أبعدته تلك الفترة عن أسرته كثيراً.. ومع أنه كان دائم الاتصال بهم، إلا أنه شعر بغربته يوم أن عاد إليهم بعد التخرج.. حتى تلك الفتاة التي اختارها للزواج لم تكن بأسعد حال من أسرته، ولم تفلح في كسر حدود صمته.. أو إخراجه من شعور الغربة الذي يسيطر عليه.

ارتاح لمنظر الجمر.. وشعر بالدفء حين قرب يديه وجسمه من النار.. ترى كيف ينقل هذا الشعور إلى عواطفه؟ الجمود بينه وبين الناس، والعلاقات المحدودة، والرغبة في الابتعاد، انهماكه في عمله الذي أخذ نفسه ووقته، بدت كل تلك الذكريات صوراً تومض مع لهيب النار.. تمنى لو يشعر بهذا الدفء في العالم من حوله.. لم يكن يؤنب نفسه في تكوين شخصيته.. فهو الطالب الواضح، الصريح.. يحب أن يحدد أهدافه، ويسعى لتنفيذها في قوة وصلابة.. ولكن البعض لا يوافقه في إصراره العجيب.. أخذ جمرة وألقى
بها وسط الجمر ووضع إبريق ماء وعاد لتأملاته.

ابنه بدأ يأخذ طباعه.. يقولون إنه عنيد، ولكنه سعيد برؤية ابنه بهذه الصورة.. ليس عنيداً، ولكنه شجاع وجرئ.. أدبه كأحسن ما يكون الأدب، وعلمه أن لايسكت على الظلم.. ربما هذا مايزعج البعض منه.. حتى ابنه يقضي وقته بين الكتب والحاسوب.. ويأنس للبحر والجبال.. إذاً هو صورة من أبيه. ابتسم لهذا الخاطر.

شعر أن الوقت تأخر فقام إلى المكان الذي أعده لنومه.. مغارة صغيرة في جبل مفتوحة من الجانبين ولكنها تضيق في أحدهما، أغلقها من تلك الناحية ببعض الصخور، وفي طرفها بقيت النار مشتعلة توفر له الدفء ونوعاً من الأمان.. أغمض عينيه في محاولة لاستراق غفوة يرتاح من عناء يومه وطول الطريق.

عادت له الذكريات.. الوظيفة التي يطمح إليها الكثير ممن هم في سنه، وكلمات الإعجاب التي سرت في عائلته.. وغيرة البعض منهم من التوفيق الذي ناله.. وانتقاله بزوجته إلى مدينة جديدة.. ثم الترقية السريعة التي لم تكن تخطر على بال.. والمعاناة التي أعقبت تلم الترقية والخلاف بينه وبين بعض رؤساء الأقسام في التعامل مع اللوائح والأنظمة التي تخص المؤسسة.. كل تلك الأفكار زاحمت رأسه ومنعته من
النوم.

ارتفع عواء ذئب قريب نقله من عالمه إلى عالم الذئاب.. كم يغبطهم على رفقتهم.. تمنى لو كان ليلاً أو ذئباً.. لا يهم المهم أن يكون واحداً منهما ليترافق مع الآخر. وتذكر الصعاليك وعشقهم لليل وأنسهم بالذئب. فابتسم في حزن.. كان بعض الصعاليك شريفاً في قومه، ولكنه تمرد على بعض الأوضاع التي سادت في الجاهلية وخرج على قومه.. وبدا له أن التاريخ يعيد نفسه في صورة أكثر تحضراً، وأكثر وحشية.. ففي عصر
الصعاليك كان الناس يحفظون العهود ويكرمون الضيف ويتمثلون بالعادات الحسنة إضافة إلى الشجاعة النادرة وعدم الغدر. أما الآن فقد ضعفت الروابط الاجتماعية وحلت مكانها ماديات مقيتة في التعامل مع الآخرين، وأصبحت المصالح هي الأساس في العلاقات.. اخدمني أخدمك.

عاد لصوت الذئب أحقاً يأنس له؟ لماذا؟ ألهذه الدرجة توحشت نفسه فعاد يأنس للذئاب أكثر من البشر تماماً كالصعاليك؟ إنه لم يطلب سوى الحياة الكريمة.. كل الذي أراده من الناس الصدق.. والحرية والطهارة.. لا يريد الظلم.. أراد أن يكون لله، ويحب لله.. أراد أخوة لاأطماع فيها ولا رغبات خاصة.. أراد أن يقول الحق في هدوء وتقدير للمقابل ويقبله الآخر في رضى وسعادة.. أكانت هذه الطلبات مستحيلة؟ هل هي ثقيلة حتى على الأخيار؟ لماذا شعر بفجوة بين النظرية والتطبيق؟ لماذا يتشدق الناس بالمبادئ ثم يقفون عاجزين أو بالأصح غير راغبين في تطبيقها على حياتهم؟

شعر بثقل الأسئلة على نفسه وتردد الإجابة في صدره.. وبدأ النعاس يغزو عينيه.. لم يطل الوقت في التفكير فقد بدأ يرحل في عالم الأحلام.. هادئ النفس قريرها.. قام من نومه قبل الفجر.. وتوضأ من ماء قريب، ووقف يصلي.. شعر أنه انقطع عن الأرض بصلاته ومناجاته.. كان يحتاج للاتصال بالله، وأحس أن نفسه سكنت.. اضطجع على جنبه الأيمن وبدأ يستغفر الله وينتظر وقت الفجر.. دخل الوقت فصلى السنة،
ثم صلى الفجر..  وفي صمت حمل عصاه وتابع المسير.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

تعليق واحد على “عصا الغريب”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.