التصنيفات
قبور الياسمين

غرباء

ربما لم أعد أتذكر الأيام، كل شيء يتشابه، حرارة، برودة، شمس، وغيوم، وفي كل الأحوال يمكن أن تسير، يمكن أن تبدأ حياة جديدة، وطريق جديد، حتى أنت تصبح شخصاً جديداً، في كل مرة تتغير لتصبح أكثر غربة، وأكثر صمتاً. لا أحب المدن، ولكن قد نتأقلم على الحياة فيها أو نجبر أنفسنا على ذلك، والبعض يتأقلم لأنه بالفعل يحب العيش فيها.

ما الذي نجنيه؟ لم أحب ذلك يوماً يا أخي، كنت أميل أكثر فأكثر إلى بيت الطين والحياة البسيطة، المدينة كبيرة، طرقاً واسعة، ومبانٍ شاهقة، وأنا وحدي أسير على رصيف خال من البشر، لاشيء سوى سيارات ومبانٍ من حولي، وبعد قليل وقفت أمام المبنى، هنا تغيرت الأحوال قليلاً، فهناك حارسان وصف من الناس وحركة دخول وخروج لمبنى السفارة، وقفت مع الناس، وبعد الإجراء الروتيني تمكنت من الدخول.

مررت جواز سفري خلال النافذة الزجاجية، أخذه الموظف ونظر إلي بشيء من الشك، ثم طلب من الجلوس وغادر، وبعد قليل جاء رجل بدا لي أنه مسئول في السفارة، وقف أمامي وقلّب جواز سفري، ثم نظر إليّ وابتسم.

–        سألني: ماذا تريد في بلادي؟

–        قلت مبتسماً: تبليغ. وبدأت أفكر ماذا يمكن أن يقول؟

–        نظر بخبث وقال: مجاهد؟

–        ضحكت وقلت: وهل يدل مظهري على هذا؟

–        سكت ولم يرد على سؤالي.

–        نظرت نحوه بحدة، ولكن لم يبد أنه تأثر بنظرتي.

–        قال في برود: راجعنا غداً.

وخرجت من السفارة، هذه المرة لا أحمل هم المبيت سأجد مكاناً، على الأقل أعرف أين أذهب، انطلقت لأستأجر فندقاً، ومن ثم غادرت غرفتي، ذهبت لشراء بعض الضروريات للرحلة، ووضعت أغراضي في الحقيبة، كالعادة لم تكن كثيرة. أعلم أنك تتذكر عاداتي، لكنني أخاطبك وكأنك معي، أريدك أن ترى ماذا فعلت من بعدك، نظرتك، ابتسامتك، وألف كلمة روتها عيناك يوم الرحيل، ابتسامتك التي كانت آخر ماأعطيتني إياه في السفر، وصوتك المتهدج وأنت تبكي وتودعني، كنت أراها كلها في كل خطوة، أتلمس طريقي في الحياة وحيداً، وأعود لمكاني في كل ليلة لأنتظرك وأكتب لك.

–        عدت مبكراً للسفارة، استوقفني الأمن، سألوني: ما الذي تريد؟

–        جواز سفري.

–        متى أحضرته؟

–        بالأمس.

–        قال لي رجل أمن يقف بعيداً: يمكن أن تأتي بعد الظهر، هذا ليس وقت استلام الطلبات.

لم أجادل كثيراً، انصرفت دون نقاش، تعلمت في سفري ألا أطيل النقاش، قد أغلق الطريق بالعناد لذلك آثرت السلام، عدت بعد الظهر كما طلب مني، هذه المرة لم يكلمني أحد، اكتفوا بالتفتيش المتكرر، دخلت وأخذت جوازي وانصرفت.

في السيارة فتحت الجواز وتأملت التأشيرة، بحسب المدون فيها سأبقى شهراً فقط، ضحكت وألقيت برأسي في جذل، هم هكذا دائماً، ولكن ليس مهماً، بإذن الله سأتدبر أمري حين أصل هناك.

تتكرر النغمة بين لحظة وأخرى لتعلن عن موعد الرحلات، بحثت عن مكان أجلس فيه لحين موعد إقلاع رحلتي، المكان صاخب نوعاً ما، مئات الأقدام تسير في وقت واحد وفي كل الاتجاهات، الأطفال يركضون فرحين بالإضاءة القوية  في المكان، وبالمساحة الواسعة، والأرضية التي تساعدهم على الانزلاق، تعجبت من أبائهم كيف يتركونهم، عصير منسكب هنا، وماء هناك، وبقايا طعام تركته العائلة التي كانت تجلس بقربي، مئات الكلمات سمعتها وبلغات كثيرة، حتى ماقيل باللغات التي أعرفها لم يكون عندي معنىً واضح، بدت الكلمات متحركة كالأشباح اللذين يمرون من أمامي، أخذت أراقب الناس في كسل، لست فضولياً ولم أكن أراقب بمفهوم المراقبة، يمكن أن تقول أني كنت أنظر إليهم في تثاقل، أبتسم لاختيارات الناس وأذواقهم، الملابس أيضاً كانت مزيج ألوان، الروائح كذلك كانت متنوعة، بعضها يشعر بالغثيان، تماماً كأشكال وألوان الملابس التي ارتداها أصحابها.

انطلق صوت الموظف يعلن عن الرحلة، كانت رحلتي بالفعل، ووقف العديد من الأشخاص في نفس الوقت، اختلطت مشاعري، بدأت أشعر بالتعب، تذكرت الامتحانات المدرسية، أكرهها، ظللت أتوتر حتى حين بلغت المرحلة الجامعية، يكفي أن تقترب الامتحانات لأبدأ الشعور بالغثيان والتعب. وقفت في صف غير مستقيم، لم يكن صفاً كان خطاً متعرجاً فيه زوائد كثيرة على امتداده، أناس يحاولون الدخول وكأنهم يخشون أن يفقدوا مقاعدهم، شعرت بالضيق، تعودت على النظام ولا أحب هذا المنظر، وأخيراً وصلت إلى موظف الخطوط الجوية، سحب البطاقة وهو يبتسم، مزق قطعة منها وأعطاني جزءاً متمنياً لي رحلة سعيدة.

جلست في مقعدي وربطت الحزام، ثم أغلقت عيني ونمت، كنت أريد الوصول بسرعة، لم يغب شعوري تماماً، فمن حولي الكثير مما يصلني لينغص عليّ، بكاء طفل، رائحة طعام التصق بملابس مسافرين يجلسون خلفي، روائح البهار الشرقية وعطور مقززة، ورائحة عرق حامض من الرجل الجالس بجانبي.

وأخيراً وصلت الرحلة، زكم أنفي هواء المدينة، كل ماشممته في الطائرة تكرر هنا ولكن بشكل أوسع، لم أر بشراً العدد من قبل، سيارات، دراجات نارية، وأنواع كثيرة من البشر يسيرون معي ومن حولي. ركبت سيارة أجرة وطلبت منه أن يأخذني لفندق نظيف، انطلق وهو يشعر بالسعادة، أحسست أنه سعيد لأنه يتوقع أن أعطيه الكثير، كان يتحدث معي ولاينتظر إجابتي، ولم أكن أفهم شيئاً مما يقول. توجه لفندق متوسط الحجم، ولكن حسن الترتيب، بعد أن أنهيت إجراءات السكن سألت الموظف هناك عن أماكن السياحة في بلده، أخذ يعدد لي المدن ويذكر مميزاتها، ذكر مدينة كنت أنتظر سماع اسمها، قرأت عنها من قبل، أشرت إليها بدأنا نتكلم عنها، ولكن كان لكل منا تصوراته.

–        المتاحف هناك كثيرة، سما لي عدداً منها وتظاهرت أنني أدون الأسماء.

–        وكيف أصل إليها؟

–        يمكن أن تستأجر سيارة، سأرتب لك الأمر إذا أردت، ولكن أنصحك أن تتجه إليها عن طريق الجو، سيكون الأمر أسهل عليك.

في يومين كان كل شي قد أُعد، رتب لي الموظف أمر السفر، وحجز لي فندقاً وسافرت. لم أعد أهتم كثيراً للناس، شعرت بالضيق من الازدحام. وعلى الرغم من ذلك كنت أعرف أنني لابد وأن أنتوجه للأسواق لعلي أحقق ماأريد. لم أتكلم مع أي إنسان هناك.. بقيت فترة من الزمن أتنقل بين الأماكن، الأسواق، المتاحف، القرى، الجبال، وفي النهاية وصلت لهدفي الذي أريد.

–        مجاهد؟

–        لم أرد.

–        لا تخف، أنا أريد مساعدتك.

–        بماذا؟

–        تريد الوصول؟

–        لم أرد عليه، ابتسمت وتأملت ملامحه، صغير في سنه، يبدوا أنه ذكي، ولا تخلوا ملامحه من خبث، ربما الحياة علمته كيف يبدوا كذلك.

–        حسناً إذا دفعت لي سآخذك هناك.

–        أشرت إليه، ومشيت.

–        تبعني، جلسنا في مكان مزدحم بالناس.

–        بدأنا نتكلم عن الثمن.

اتفقنا أخيراً على ثمن مناسب، وحددنا موعد التحرك، قال لي أن الطريق شاق وطويل، مر علي في الفندق قبل الفجر، وانطلقنا كالغرباء، كان علينا الوصول لمكان آخر نرتاح فيه، ثم نتحرك ليلاً نحو الجبال، سرت معه، لاأعرفه، ولم أفكر كثيراً في الأمر، لكن لم يكن لدي خيار آخر، أعرف أن الطريق صعب ولكن لا بد من المخاطرة.

 

قبور الياسمين

(الحلقة السابقة: الرحيل الجديد> يتبع > الحلقة التالية: جبال قاسية)

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

تعليق واحد على “غرباء”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.