التصنيفات
طائر المئذنة

ضيف الشتاء

 

كان الجو كله يوحي بالرهبة.. فرياح الشتاء تعصف في الخارج فتبدو كقطيع من الذئاب تعوي في الغابة القريبة.. وذلك الضيف الجالس أمامي يجعلني أشعر بأنني لازلت طفلاً.. كان غريباً عني بالرغم من قربه.. فآخر مرة رأيته فيها كانت قبل خمس سنوات.. كنت حينها مسافراً، لم أعِ الكثير من كلام أمي.. ولكنها قالت لي سوف ترى أباك.. ثم لم تعد تكلمني في الموضوع.. ورأيته وقتها ولكنها كانت زيارة خاطفة.. لم يلتصق في ذهني منها سوى الجلسات الطويلة التي كان أبي وأمي يقضيانها معاً وتصلني بين لحظة وأخرى كلمة طائشة لاتشكل جملة في النهاية. كان يكثر من الاعتذار وقتها، ولم تكن أمي تصدقه فيما يظهر فكانت تبتسم في سخرية.

– الجو شديد البرودة.

– نعم صحيح هذا موسم العواصف.. يبدو أنك نسيت ذلك.

– في الحقيقة لم أنسه.. بل تعمدت المجيء في هذا الوقت من السنة.

– اقترب من المدفأة.. قلت ذلك واقتربت منها ووضعت ذقني على ركبتي وبدأت أتأمل في صوت تكسر الأخشاب المحترقة.

قطع تفكيري صوته:

– يبدو المنزل جميلاً.. أليس كذلك؟

– بلى.. تبذل أمي جهداً كبيراً للمحافظة عليه..

صمت بعدها، ربما كان من الأفضل أن أشكره لأنه هو من اشترى المنزل، ولكنني لم أجد رغبة لذلك.

– كيف تجري أمور دراستك؟

– بخير..

أردت أن أقول له إنني سأرحل إلى العاصمة لإكمال الدراسة الجامعية هناك.. ولكن شعرت بالكسل وعدم الرغبة في الكلام. ران الصمت علينا لفترة.. ووجدت أنه من اللائق أن أشعره بأهميته، قلت له: – أمي قد لا تأتي الليلة.. ستبيت عند خالي.

– أعرف، ولذلك أتيت..

فاجأني رده..  وشعرت بالغضب من أجلها.. أردت أن أقوله له لماذا تركنا ولكن فضلت عدم التدخل في هذه الأمور. قطع الصمت مرة أخرى.

– أغضبت من أجلها؟

تفاجأت.. قلت في ارتباك:

– لا.. في الحقيقة… نعم ربما قليلاً.

– يعجبني هذا الشيء.. أنت ابن أبيك.

– لم أفرح كثيراً بالتشبيه.. ومع أنني سمعته مراراً من أمي وجدتي إلا أنني تمنيت أن لا أشبهه.

– ربما تتساءل لماذا فعلت ذلك؟

قالت لي أمي ذات مرة إن أبي يقرأ الأفكار.. ولكن ما قاله لي أذهلني مرة أخرى.. قلت له متظاهراً بعدم الاهتمام:

– لماذا تظن ذلك؟

تنهد ثم قال:

– لأن النفس الإنسانية هكذا.. كثير من الأمور يا بني لا تفهم في وقتها.. نحتاج وقتاً لنفهم لماذا حدث كل ذلك.

تأملته دون أن أشعره بأنني أراقبه.. عروق يديه تظهر بشكل ملفت للنظر.. وشعر أشيب في جانبي الرأس.. ونظرة حادة انعقد فوقها حاجبان جميلان.. شفاه ممتلئة.. وعيون أنهكتها النظارات.. هكذا بدا أبي وهو في الخامسة والأربعين.

– تابع كلامه بهدوء.. لقد كبرت وبدأت تفهم الحياة.. ولكنك تحتاج وقتاً لتكون خبراتك.. وعندما تصل لمرحلة النضج ستدرك الكثير من المعاني.

– …

– هل تحب أمك؟

تعجبت من السؤال وقلت:

– نعم بالتأكيد.

– ربما تكون متعباً لها أكثر مما تكون مفيداً.. حين تفكر فيك أمك وتحمل همك ولا تساعدها عندها ستكون عبئاً. وربما كان هذا سبباً من الأسباب التي جعلتني أرحل يوماً ما.

– أهذا عذر؟

– ربما يكون عذراً.. ولكن هذا وقته.. أنا أعلم أنك سترحل لتكمل الجامعة في العاصمة.. لقد كبرت يا ولدي.. وآن أن تفهم ماذا حدث. لم يكن الأمر بيدي ولا بيدها.

– وأنا؟

– أنت أكبر الأسباب التي جعلتني أضع حدًّا للحياة.. كان لابد أن تعيش أنت، وهذا يعني رحيلي.

انقطع الكلام بيننا وكأننا لم نعد نريد الحديث في الماضي.. وفجأة وقف وقال:

– إذاً يا ولدي الحبيب سأرحل الآن.. آمل أن أسمع أخباراً جيدة عنك.

– إلى أين؟ العاصفة قوية…

وقفت ووقف وربت على كتفي وقال:

– لا عليك، لقد تعودت عليها.. لابد أن أمك أخبرتك أني أحب الثلوج.. كدت أموت ذات مرة من أجل أن أراك أنت وأمك.. كنت صغيراً وقتها.

ابتسمت وقلت:

– أدري..حدثتني أمي بذلك.

– بلغها سلامي.. وابق على اتصال بي.

فتح الباب في عزيمة وخرج متلفعاً بمعطفه.. بقيت واقفاً أراقب خطواته على الثلج.. لم أهتم بالعاصفة.. كان الثلج يضرب وجهي بقوة.. ومن أجل ذلك الإنسان كانت دموعي تسيل.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

6 تعليقات على “ضيف الشتاء”

متطلبات الحياة كثيره جدا وتكاد ان تكون اكبر من ان يتحملها البشر ..
تعصف بنا هذه الحياة الى ان نتناسى العلاقات الانسانيه والارتباطات الابويه
وكل منا له خباياه العائليه ولا نستطيع البوح بها لانها فوق طاقتنا وتفوق تحملنا لاعباء الحياة
ولكن هنالك شيئا يبقى على ارتباط مع مكوناتنا البشريه ..
وهو ارتباط الابن بالاباء ..
مهما الصعاب باعدت بينهما لابد لروح الجسد ان تحن لمن التصق بها عنوة ذات يوم ..
وان رمت بهم عواصف البعد احتياجا او نفارا من شيئا ما …
كانت همسات دافئه وسط موجة ثلج
بديع ما جأت به لنا يا استاذ عبد الله
تمنياتي لك بالتوفيق
لـك مـني تحيـه

حديث مشوق ورائع .. اتمنى بحق أن تستمر مثل هذه العلاقهـ، ..
جميل في وصفك بالطبيعة الجليدية والذئاب القطبية .. والعواصف والمدفئة ..
بصراحهـ، راق لي حسك الفني في هذه المقالة .. بحق .. .

أعتقد أنهـ، لايوجد مقالة تخرج للعامة .. إلا ويقرئونها .. .
ولكن هناك مقالات وإن لم تخرج للعامة وإن دفنت .. فإنها مشوقة وتحاكي مشاعرك وما تحس به .. .
هناك كتاب يكتبون كتابات كثيرة .. تقع على واحدة منها .. فتحس بأنها الأقرب إلى قلبك .. 🙂
وقد يكون سبب ذلك أن الكاتب يعيش فترة في حياته بهذا النمط .. .

في هذه القصة .. تحكي لنا كيف تقارب الأبن مع أمه أكثر .. .
ولكنه في نهاية المطاف .. يلتفت إلى أبيه الذي أثر في حياتهـ، .. .
و أن الأب هو الذي يجعل منك أباً في المستقبل .. هو الذي يصنع حياتك ..
..:: (من خلال كلمات يسيرة || أو جلسة واحدة) ::..

::

شكراً لمدار فكرك الراقيـ، … 🙂

الأستاذ مكي.. الأستاذة أصيل..

مرحباً بالأرواح العراقية.. سعدت بكما..

ساترك النص كما هو.. وليفهمه القارئ كما يحب..

المهم ألا يلزمني بفهمه.. ولا يعتبره رأيي 🙂

شكراً لك آيس كريم.. أسعدني مرورك..

دمتم بخير..

مشاعرُ القسوةِ المتجلّية في الرحيل قد تفوق أعمارًا من الحنان
لكن .. أنّى لمن لا يشعر أن يفهم ..!

سردٌ بسيط غير متكلف ،،
يجعلكَ تُعيد قراءةَ النصّ دون ملل
تحيتي وأعذب المنى

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.