التصنيفات
طائر المئذنة

الخياطة

كان ضجيج الآلات يصم الآذان.. والوجوه التي تحولت إلى قطع من الخشب ينظر إلى مكان واحد دون أن تتغير ملامحه.. الحاجب المعقود.. والعضلات المشدودة.. ولمحة تعب ممتزجة بألم تظهر بين فترة وأخرى وفي الزاوية البعيدة وقفت المراقبة ماجدة ذات الوجه الصارم والخمسين خريفاً تراقب البنات وهن يعملن على مئات الآلات.

كان المصنع قديماً بنته الحكومة لأعمال الحديد، ومع الحرب وتغير الحياة قلت الأعمال التي يقوم بها المصنع، وتحول جزء منه إلى استثمار وفيه أقيمت مصانع الخياطة هذه. موفرة بذلك فرصة عمل للقرويين الذين يريدون أن يحيوا حياة أقرب إلى حياة البشر.. ولكن لم تكن توفر لهم غرفاً للسكن ولذلك كان بعضهم يضطر إلى استئجار غرفة في منزل قريب إن وجد أو يرضى بأي منزل ويتحمل في سبيل ذلك المطر والثلوج في ليالي الشتاء.

وعرفت ماجدة بشدتها بين العاملات، ولذلك أُوكِلَتْ إليها إدارة المصنع المراقبة، وبالفعل نجحت في بث جو من الرعب بين الفتيات حتى عرفت بقسوتها، لم تكن ماجدة تعرف من الدنيا إلا معاني القسوة والتوفير.. وبدا هذا النهج واضحاً حتى في مشاعرها الجافة وملامحها القاسية.

كان من ضمن العاملات فتاة في الثانية والعشرين من العمر عرفت معنى الشقاء في سن مبكرة.. وجاءت إلى المصنع كغيرها من الفتيات، ولكنها زادت عليهم بشيماء الطفلة ذات الربيعين. ورأت أن تستقر في هذه المنطقة البعيدة بمصنعها الصخري الصاخب، علها تجد في أحجاره بعضاً من العطف الذي فقدته في حياتها. وألفت عين ماء قريبة من الغرفة التي استأجرتها، ومجموعة من الطيور الصغيرة تقف قريباً منها تلتقط الفتات الذي تلقيه حنان لهم كل صباح قبل أن تذهب إلى عملها.

بدأ فصل الصيف بطول نهاره وشدة حره.. وكانت حنان قد أنست لزميلة لها تعيش ظروفاً مقاربة لظروفها إلا أن لها أسرة تذكرها بين فترة وفترة بزيارة، ومع قلة هذه الزيارات وسرعة انقضائها إلا أنها تشعرها بقرب أسرتها.. أو على الأقل هي تلك الرغبة التي تشعرنا بالأنس في وجود أسرتنا ومن نحب من حولنا.

من الذي يستحق البكاء؟.. أصحاب القلوب القاسية والمشاعر الجافة، أم هؤلاء البسطاء في أسمالهم النظيفة، يبتغون شظفاً من العيش يقيم أودهم؟ مع بقاء نقاء قلوبهم وصفاء أرواحهم.

كثيرة هي المعاني التي انتكست في حياتنا.. وتغيرت فلم نعد نميز.. نظن أننا نقيم واقعنا بمنطق وعقل، ولا ندري أن أعرافنا من صنع أيدينا.. وأن مبادئنا شيء لم يكن موجوداً إلا يوم بدأنا في التفكير.. صورة حنان وهي تلاعب شيماء تجعل كل قلب ينبض يفكر في جذور هذه  الأسرة، من أين جاءوا.. وأين البقية.. وإلى أين ستنتهي بهم الحياة في عالم قاس لا يعرف من الرحمة إلا اسماً يرتبط بالمناسبات.

بجوار المصنع كان منزل سعد.. هو من أهل القرية.. عاش شبه يتيم إلى فترة متقدمة من سن طفولته.. ثم تيتم بعد ذلك ليكمل المشوار مع أم لم تلبث أن تلحق بزوجها فجأة تاركة وحيدها يقاسي الألم دون أن يعي معنى الرحيل. وفي أيام قلائل كان أعمامه قد تقاسموا كل شيء وتركوا له منزلاً في حدود القرية كان أبوه قد جعله لعابري السبيل ثم أهمل بعد وفاته.

أصلح سعد ما استطاع من شأن المنزل.. وحاول الاعتناء بالحديقة قدر استطاعته، ثم تمكن من الحصول على عمل يدر عليه دخلاً قليلاً.. ومنه اشترى بعض الغنيمات ينتفع بهن وهكذا بدأت حياته تترتب. ولكن بقي الحنين للأسرة يشغل ذهنه.. ولفقره لم يفكر بالتقدم لأي فتاة من القرية.. ولكن إلحاح الفطرة في نفسه الغضة أوحت إليه بالتقدم لأي من عاملات المصنع ولسيرة حنان الطيبة عزم على خطبتها.

أرسل سعد لجارته أم محمد وهي امرأة كبيرة جاورت أسرته زمناً طويلاً ولعب أبناؤها مع أبيه وأحفادها معه.. يخبرها عن رغبته في الزواج من حنان.. وكانت أم محمد ترى نفسها في مقام الأم والجدة لسعد فرحبت بذلك الأمر كثيراً.. ولكنها تذكرت شيماء فأثار هذا الأمر نظرات إلى الماضي، وحاولت أن تبحث عن حنان في أستاره أكثر علها تعرف تاريخها.. وبالفعل علمت بأنها يتيمة زوجها عمها من رجل ثري طمعاً في المال وكانت شيماء ثمرة ذلك الزواج.. ولكن الضرب والاحتقار أنهى العلاقة الزوجية حتى قبل أن تأتي شيماء.. ولم يقبلها عمها بعد ذلك في بيته فاضطرت إلى الرحيل من أجل العيش في كرامة.. وكان استقرارها هنا في هذه البلاد.

ولم تضع وقتاً ففاتحتها في الأمر وترددت حنان في البداية.. ولكن الرغبة في الاستقرار والشعور بالحاجة إلى الرجل دفعتها إلى الموافقة آملةً أن تجد في سعد ما يعوضها عن الشقاء الذي رأته في حياتها.

تم عقد القران.. واتفق الجميع أن يكون الزواج بعد شهرين ريثما يتم للجميع الاستعداد وبدأت نسمات من السعادة تملأ حياة قلبين.. وانشغل الزوجين في الترتيب لليوم المنتظر.

في المصنع كانت ماجدة ترى وتسمع وتشعر بالغيرة تأكل قلبها.. كيف أن هذه الغريبة توفق للزواج قبلها وهي التي لم تتم السنة في هذه المنطقة.. وكانت تنسج في الخفاء خيوط حقدها علها تصيب بعضاً مما أصابت حنان.. أو تمنع عنها السعادة المرتقبة. فأوصلت إلى الإدارة مكيدة مفادها أن قصة حب كانت قد تمت بين الزوجين قبل عقد القران.. وهذا من شأنه أن يسبب سمعة سيئة للمصنع وعاملاته.. وبالفعل اتخذت الإدارة إجراءاتها وقامت ودون تثبت بفصل حنان من عملها.

انقضى الشهر الأول وفيه من التعب ما فيه.. وبدأ العد التنازلي للقاء.. مر أسبوع وأسبوع.. واضطر سعد للذهاب إلى المدينة لإحضار بعض الأشياء الضرورية للمنزل.. هيأ غرفة الصغيرة.. حاولت حنان أن تثنيه عن الذهاب كانت قلقة عليه.. ولكنه أصر وطمأنها.

لليل رواق على القلوب نشعر به.. يبسط نفسه فيورث أنساً وسكينة.. وهذه البقعة من الأرض تحكي أن أرواحاً طاهرة سارت عليها.. مر على قصتنا هذه خمسة عشر سنة.. لم يعد سعد، فقد رحل للقضاء.. عاشت حنان وابنتها هنا.. وفي المنزل القديم استقرت هذه الأسرة الطيبة.. ومن الأرض و الغنيمات انتعشت أرواح.. وافتقدت الحب من البشر، لتجده في النجوم والسماء والأشجار.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

4 تعليقات على “الخياطة”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.