التصنيفات
قبور الياسمين

الرحيل الجديد

لم يتوقف الثلج منذ البارحة، رجعت لطاولتي ثانية، أحتاج لشراء كمية من الشموع، نظرت للأوراق أمامي مرة أخرى، لاحظت أمراً غريباً، لماذا لم أتكلم عن حياتنا في الجبهة؟. كنت أشير فقط للألم فيها. ربما لأن الأيام السعيدة تنقضي بسرعة، أتذكر أول وصول لي للمعسكر والتعرف بالأنصار هناك، كان مدربنا رجلاً عجيباً، أحببته، أحببته بعمق. قال لي أنه يحبني وأسعدني ذلك، ورحل كما يرحل الآخرون، ليتركني وحيداً.
كنت من أشبه الناس به، يظن الناس أنني أخوه، وقد كنت كذلك فعلاً ولو لم تجمعني به رابطة الدم، كان أبو الشهداء، وكان قائد القادة، أكرمه الله بلياقة بدنية عالية فسخرها لطاعته، وكتم عن الناس الآم قلبه النفسية بسبب غربته والعضوية بسبب مرضه. حدثني كثيراً عن رغبته في الشهادة، وعن ألمه بسبب تأخرها، كان يروي لي مايراه الأنصار فيه من أنه سيقتل ، يتحدث معي في سعادة الأطفال وصفائهم، وحدث أمر دفعني للرحيل.

 

– لماذا سترحل وتتركنا؟

– لا أريد أن أرحل، ولكن هذا هو قرار القائد، وهذه هي المصلحة.

– ستعود؟

– بالتأكيد، وسنلتقي، هنا أو في مكان آخر.

– اسمع، منذ زمن لم أقل هذا الكلام.

– …..

– أحبك في الله.

– فرحت بكلمته، فقد عنت لي الكثير، أحبك الله الذي أحببتني فيه، أجبته وأنا مطأطئاً رأسي.

– أريد أن أهديك شيئاً، لاأعرف ماذا أعطيك، ثم تلعثم ولم يجد شيئاً يقوله فارتبك وقال: فقط… خذ ابني هدية لك.

– …..

– علمه كل شي تعرفه.

– وافترقنا وهذا هو الحال في كل مرة، كانت الأيام تمر علينا سريعة كحال لحظات الوداد، فإذا بنا نعد الثواني واللحظات، أتذكر الشهداء الذين قابلتهم، كانت الحياة محطة يرتاح فيها الشهيد قبل أن توافيه منيته، بحث عن الشهادة حتى كل وتعب، ولكن الله كان يدخره لأمر أكبر.. تمناها ولكن لو رحل من سيعد العشاق
لمصارعهم.

جاءت فترة الرباط الشاقة، بحرها وبردها، وبقي ثابتاً كالجبل مع الأنصار. اليوم إن مررتَ من هنا، سترى النهر جارياً بقوة، يخبر صوت هديره أنه من بطون الموت التي ضمت الشهداء، ويعلن أنه صورة من صور المنية المعدة للأحرار.

نعم رحل مع الأمواج مرابطاً غريقاً مبتسماً، وبقي ابنه الشهيد مجاوراً لقبر أبيه، وبقيت أراه يوماً من بعد يوم، أتذكر هديتي مبتسماً، وأودع أباه الشهيد.
أتذكر يوم رحيلنا إلى الجبهة.. ودعنا الذين سيبقون وهم يبكون، يريدون الذهاب، وكنا سعداء نحاول غرس الصبر والأمل في نفوسهم، مرت أيام جميلة في التدريب، صعود الجبال وفك السلاح والحراسة وتعلم أمور الحرب، ولكن كان للرحيل للجبهة طعم خاص، أخذنا نضحك وننشد طوال الطريق ويذكر بعضنا البعض بالنية، نضحك كالأطفال، الكل يتمنى الشهادة والكل يتوقع أن يقتل.. وقتل الكل إلا.. أنا. أتذكر يوم أن قلت لأحد
الأنصار أنني سأقتل، فضحك وقال: بل أنا من سيقتل، وأتذكر يوم أن قال لي أحدهم ستقتل وقلت: بل أنت الذي ستقتل.. وقتل فعلاً. رحلوا جميعاً.

 

أتذكر الشيخ الكبير، والطفل الصغير، أتذكر الجبهة والمعارك، أتذكر خندقاً صغيراً ينام فيه أربعة وكلب شريد يأتي من الغابة يلتصق بهم طلباً للدفء والطعام، أتذكر طعم القهوة تحت القصف، أتذكر الخبز الأسود، أتذكر ولكن لماذا لا أكتب عنها. دعها أخي في صدري فالذكرى تقتل قلبي.
لم أطق القعود عند عودتي، نقص وزني كثيراً وبكت أمي كثيراً، كانت حبيبتي جاهزة تنتظر الرحيل، وحان موعد الرحيل الجديد.

 

قبور الياسمين

(الحلقة السابقة: وصول ورحيل> يتبع > الحلقة التالية: غرباء)

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
رسائل إلى نفسي

أفكار مجنونة

24/4/2011م

المنزل (غرفة النوم).. الساعة 3:55 عصراً

 

سأظل أتأرجح عند البعض بين الجنون والغرور.. أو هذا هو ما أتوقعه بسبب رسائلي هذه.. والسبب في رأيي أننا لانتصور مفهوم المحاسبة إلا كصورة للجنون أو الغرور..

مخاطبة النفس لاتخلو من صور إدارية وحضارية، فهي سريعة الاتصال وتوفر عناء البحث عن متلقي الرسالة، كما توفر تكاليف البحث.. والتكاليف تتقلص لحد كبير، كما أن الآلآت المستخدمة ستقل، وبالتالي وبلغة إدارة المشاريع سأكون قد حققت مميزتين رئيسيتين، وميزة فرعية وهي:

– تقليل التكلفة.

– استخدام الوسيلة الملائمة.

– استخدم الشخص الأنسب.

كما أنني سأحقق نتائج لايستهان بها من خلال مخاطبة نفسي ومنها على سبيل المثال:

– ضمان وصول رسالتي لمن يقدرها.

– ضمان أداءً وجهداً ملائماً، حتى لو لم يتحقق ما أريد.

ثم هل هناك من سيفهمني كنفسي؟ فهي الكائن الوحيد الذي يفهمني بدون أن أبرر، ويعرف مخططاتي دون الافصاح عنها، ويقف معي حين يتخاذل الناس.. فكيف لا أخاطبها بأعز ما أملك، وكيف لاأهدي لها مساحات الظل.

افتقدها كثيراً.. ففي الأحوال العادية أحتاج إلى ساعات الصفاء والاتصال بها، واليوم تتسارع الأحداث
من حولي فأشعر بحاجة أكبر لملاقاتها والحديث معها.

 

(الصورة بعدسة: سديم البدر)