التصنيفات
طائر المئذنة

الخياطة

كان ضجيج الآلات يصم الآذان.. والوجوه التي تحولت إلى قطع من الخشب ينظر إلى مكان واحد دون أن تتغير ملامحه.. الحاجب المعقود.. والعضلات المشدودة.. ولمحة تعب ممتزجة بألم تظهر بين فترة وأخرى وفي الزاوية البعيدة وقفت المراقبة ماجدة ذات الوجه الصارم والخمسين خريفاً تراقب البنات وهن يعملن على مئات الآلات.

كان المصنع قديماً بنته الحكومة لأعمال الحديد، ومع الحرب وتغير الحياة قلت الأعمال التي يقوم بها المصنع، وتحول جزء منه إلى استثمار وفيه أقيمت مصانع الخياطة هذه. موفرة بذلك فرصة عمل للقرويين الذين يريدون أن يحيوا حياة أقرب إلى حياة البشر.. ولكن لم تكن توفر لهم غرفاً للسكن ولذلك كان بعضهم يضطر إلى استئجار غرفة في منزل قريب إن وجد أو يرضى بأي منزل ويتحمل في سبيل ذلك المطر والثلوج في ليالي الشتاء.

وعرفت ماجدة بشدتها بين العاملات، ولذلك أُوكِلَتْ إليها إدارة المصنع المراقبة، وبالفعل نجحت في بث جو من الرعب بين الفتيات حتى عرفت بقسوتها، لم تكن ماجدة تعرف من الدنيا إلا معاني القسوة والتوفير.. وبدا هذا النهج واضحاً حتى في مشاعرها الجافة وملامحها القاسية.

كان من ضمن العاملات فتاة في الثانية والعشرين من العمر عرفت معنى الشقاء في سن مبكرة.. وجاءت إلى المصنع كغيرها من الفتيات، ولكنها زادت عليهم بشيماء الطفلة ذات الربيعين. ورأت أن تستقر في هذه المنطقة البعيدة بمصنعها الصخري الصاخب، علها تجد في أحجاره بعضاً من العطف الذي فقدته في حياتها. وألفت عين ماء قريبة من الغرفة التي استأجرتها، ومجموعة من الطيور الصغيرة تقف قريباً منها تلتقط الفتات الذي تلقيه حنان لهم كل صباح قبل أن تذهب إلى عملها.

بدأ فصل الصيف بطول نهاره وشدة حره.. وكانت حنان قد أنست لزميلة لها تعيش ظروفاً مقاربة لظروفها إلا أن لها أسرة تذكرها بين فترة وفترة بزيارة، ومع قلة هذه الزيارات وسرعة انقضائها إلا أنها تشعرها بقرب أسرتها.. أو على الأقل هي تلك الرغبة التي تشعرنا بالأنس في وجود أسرتنا ومن نحب من حولنا.

من الذي يستحق البكاء؟.. أصحاب القلوب القاسية والمشاعر الجافة، أم هؤلاء البسطاء في أسمالهم النظيفة، يبتغون شظفاً من العيش يقيم أودهم؟ مع بقاء نقاء قلوبهم وصفاء أرواحهم.

كثيرة هي المعاني التي انتكست في حياتنا.. وتغيرت فلم نعد نميز.. نظن أننا نقيم واقعنا بمنطق وعقل، ولا ندري أن أعرافنا من صنع أيدينا.. وأن مبادئنا شيء لم يكن موجوداً إلا يوم بدأنا في التفكير.. صورة حنان وهي تلاعب شيماء تجعل كل قلب ينبض يفكر في جذور هذه  الأسرة، من أين جاءوا.. وأين البقية.. وإلى أين ستنتهي بهم الحياة في عالم قاس لا يعرف من الرحمة إلا اسماً يرتبط بالمناسبات.

بجوار المصنع كان منزل سعد.. هو من أهل القرية.. عاش شبه يتيم إلى فترة متقدمة من سن طفولته.. ثم تيتم بعد ذلك ليكمل المشوار مع أم لم تلبث أن تلحق بزوجها فجأة تاركة وحيدها يقاسي الألم دون أن يعي معنى الرحيل. وفي أيام قلائل كان أعمامه قد تقاسموا كل شيء وتركوا له منزلاً في حدود القرية كان أبوه قد جعله لعابري السبيل ثم أهمل بعد وفاته.

أصلح سعد ما استطاع من شأن المنزل.. وحاول الاعتناء بالحديقة قدر استطاعته، ثم تمكن من الحصول على عمل يدر عليه دخلاً قليلاً.. ومنه اشترى بعض الغنيمات ينتفع بهن وهكذا بدأت حياته تترتب. ولكن بقي الحنين للأسرة يشغل ذهنه.. ولفقره لم يفكر بالتقدم لأي فتاة من القرية.. ولكن إلحاح الفطرة في نفسه الغضة أوحت إليه بالتقدم لأي من عاملات المصنع ولسيرة حنان الطيبة عزم على خطبتها.

أرسل سعد لجارته أم محمد وهي امرأة كبيرة جاورت أسرته زمناً طويلاً ولعب أبناؤها مع أبيه وأحفادها معه.. يخبرها عن رغبته في الزواج من حنان.. وكانت أم محمد ترى نفسها في مقام الأم والجدة لسعد فرحبت بذلك الأمر كثيراً.. ولكنها تذكرت شيماء فأثار هذا الأمر نظرات إلى الماضي، وحاولت أن تبحث عن حنان في أستاره أكثر علها تعرف تاريخها.. وبالفعل علمت بأنها يتيمة زوجها عمها من رجل ثري طمعاً في المال وكانت شيماء ثمرة ذلك الزواج.. ولكن الضرب والاحتقار أنهى العلاقة الزوجية حتى قبل أن تأتي شيماء.. ولم يقبلها عمها بعد ذلك في بيته فاضطرت إلى الرحيل من أجل العيش في كرامة.. وكان استقرارها هنا في هذه البلاد.

ولم تضع وقتاً ففاتحتها في الأمر وترددت حنان في البداية.. ولكن الرغبة في الاستقرار والشعور بالحاجة إلى الرجل دفعتها إلى الموافقة آملةً أن تجد في سعد ما يعوضها عن الشقاء الذي رأته في حياتها.

تم عقد القران.. واتفق الجميع أن يكون الزواج بعد شهرين ريثما يتم للجميع الاستعداد وبدأت نسمات من السعادة تملأ حياة قلبين.. وانشغل الزوجين في الترتيب لليوم المنتظر.

في المصنع كانت ماجدة ترى وتسمع وتشعر بالغيرة تأكل قلبها.. كيف أن هذه الغريبة توفق للزواج قبلها وهي التي لم تتم السنة في هذه المنطقة.. وكانت تنسج في الخفاء خيوط حقدها علها تصيب بعضاً مما أصابت حنان.. أو تمنع عنها السعادة المرتقبة. فأوصلت إلى الإدارة مكيدة مفادها أن قصة حب كانت قد تمت بين الزوجين قبل عقد القران.. وهذا من شأنه أن يسبب سمعة سيئة للمصنع وعاملاته.. وبالفعل اتخذت الإدارة إجراءاتها وقامت ودون تثبت بفصل حنان من عملها.

انقضى الشهر الأول وفيه من التعب ما فيه.. وبدأ العد التنازلي للقاء.. مر أسبوع وأسبوع.. واضطر سعد للذهاب إلى المدينة لإحضار بعض الأشياء الضرورية للمنزل.. هيأ غرفة الصغيرة.. حاولت حنان أن تثنيه عن الذهاب كانت قلقة عليه.. ولكنه أصر وطمأنها.

لليل رواق على القلوب نشعر به.. يبسط نفسه فيورث أنساً وسكينة.. وهذه البقعة من الأرض تحكي أن أرواحاً طاهرة سارت عليها.. مر على قصتنا هذه خمسة عشر سنة.. لم يعد سعد، فقد رحل للقضاء.. عاشت حنان وابنتها هنا.. وفي المنزل القديم استقرت هذه الأسرة الطيبة.. ومن الأرض و الغنيمات انتعشت أرواح.. وافتقدت الحب من البشر، لتجده في النجوم والسماء والأشجار.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

أسرار

حياتنا كلها أسرار..
يعرف البعض جزءاً منها..
وجزء آخر نصرّ على كتمانه ليرافقنا في قبورنا..
بين صدر وقبر تدور همومنا..
ولمن نحب..
نهدي أسرارنا..

(1)

المكان: مطعم السكن الجامعي.

الوقت: الساعة العاشرة مساءً.

الصورة: عدة طاولات يجلس عليها مجموعة من الشباب يضحكون ويتناولون شيئاً من العصير.

–        عبدالرحمن.. هذا زميلك يجري كالعادة.

–        يلتفت عبدالرحمن إلى حيث أشار يوسف.. ليرى سعداً يجري متوجهاً إلى السكن.

–        يعجبني إصراره.. قال يوسف.

–        رد عبدالرحمن مبتسماً.. غريب.. ولكنه ودود.

–        أفكر أحياناً أنه لا يشعر بوجودنا من حوله.

–        نعم.. ربما كان كذلك.. نظرته الساهمة في بعض الأحيان توحي أنه ليس من هذا العالم.

–        تدخل صوت ثالث.. نظرته الساهمة!! بل قل نظرته الحادة.. لم أر عينين كعينيه.

ضحك عبدالرحمن

–         لكن صدقوني لو تعرفونه عن قرب لأحببتموه.

–        ربما كان كذلك.. ولكن عن نفسي يكفي أن أراه كل يوم يجري متوجهاً إلى غرفته.

وعاد الجميع إلى حديثهم السابق ونسوا أمر سعد.

السكن الجامعي يتكون من عدة مباني.. وكل مبنى منها يتألف من عدة أدوار.. وفي الدور الواحد أكثر من شقة.. وكذلك الشقق هي مجموعة من الغرف.. يسكن في كل غرفة شخصان فقط. يمكن أن يتعارف أصحاب الشقة معاً فيغلقون بابها ويعدون برنامجاً للشقة كاملة.. ويمكن أن يستقل كل اثنان منهم في غرفتهما ولا يتعارفون مع الجيران فيظل باب الشقة مفتوحاً دائماً وتشعر بالوحشة لو دخلتها. لم يراعوا في توزيع الشقة التخصصات.. ولا أدري أكان ذلك مناسباً أم لا.. في بعض الأحيان أشعر أن وجود اثنان من نفس التخصص في نفس الشقة يكون أنسب.. فهذا يعطي فرصة للنقاش وتنمية المعرفة.. والإعداد للدراسة.. ولكن أحياناً أشعر أن التنوع في التخصص يكون أنسب.. فهناك نجد تنوعاً في المعارف من خلال الأطروحات المتبادلة.

هناك مطعم خاص بالسكن.. وصالة توفر فيها كل ما يشغل الطلبة ويخفف عنهم وحشتهم.. وعادة نعني صالة ألعاب صغيرة وبعض الأجهزة الرياضية البسيطة. وهناك شبه حديقة يجلس فيها من أحب الهدوء والخضرة.. وبهذا حاولت إدارة الجامعة أن توفر جواً ملائماً لكل الطلبة.. ووجود النادي الرياضي قريباً من السكن وفر على الجامعة توفير مدربين لبعض الألعاب الصعبة.. وأعطى الطلبة فرصة للالتحاق به دون أن تتأثر دراستهم.

–        السلام عليكم يا سعد.. كيف حالك؟

–        ابتسم سعد.. أهلاً عبدالرحمن.. بخير.. ويبدوا لي أنك كذلك.

–        نعم أنا بخير.. رأيتك تجري اليوم هل أنهيت استعدادك للبطولة؟

–        نوعاً ما.. يجب أن أحافظ على وزني لأتمكن من اللعب في هذا الوزن.

–        ابتسم عبدالرحمن.. أرى أن هناك هواية أخرى تأخذك بعيداً عن جو النوادي.. وأشار إلى مجموعة الأوراق بين يدي سعد.

–        نعم صدقت.. منذ أن كنت صغيراً وأنا أحب الكتابة.

–        ولكن لم أرى أياً من إبداعك.

–        محبة الشيء لا تعني الإبداع فيه.. أنا أكتب لنفسي.

–        لا تحكم على نفسك.. يمكن أن تكون مبدعاً وتكتب لنفسك.. وابتسم.. نوعاً من التواضع يعني.

–        لا.. صدقني أنا أكتب لنفسي فقط.

–        لماذا؟

–        لا أدري.. لم أفكر من قبل.

–        هل تسمح لي بالاطلاع على أوراقك؟

–        ابتسم سعد.. ربما لا حقاً.. وابتسم.. إذا مت يمكنك الرجوع لأوراقي.

–        ماذا سأجد فيها؟

–        غاصت البسمة.. وظهر ألم في وجه سعد.. وران صمت طويل.

 

(2)

–        عبدالرحمن.. لا تسلني هكذا.. سمحت لك بأوراقي.. وقد عشنا معاً عدة سنوات ولولا أنني أعرفك ما قلت لك هذا الكلام.

–        جرحتك؟

–        ربما ليس جرحاً.. ولكن …

–        تهرب كثيراً من شيء يا سعد.. قله لي أنا زميل عمرك.

–        …

–        … جيد لا تقل شيئاً.. وأرني ابتسامتك.. وانشغل الصديقان من جديد.

في حياة البعض نوعاً غريباً من التناقض.. أو يبدوا لنا هكذا.. البسمة في وجه سعد، والحزن الذي يظهر بين فترة وأخرى كسحابة مظلمة تغير الصفاء.. وطبيعة هذا الشاب اللطيفة وبعده عن الناس، وهدوئه الغريب.. ونظرته القوية.. ترى أي سر في قلبه.

شاب بسيط في العشرينات.. عرف بين زملائه بسمته.. واهتمامه بالأنشطة الطلابية.. وحب فطري للدين وأهله.

استعد سعد للبطولة القادمة.. قضى فترات مثيرة وهو يتدرب.. وهو الآن مهيأ للمنافسة.. شجعه رفقائه على الانتصار.. سيكون فخراً للكلية كلها.. وللسكن خاصة.

–        اسمع يا سعد.

–        نعم.

–        لا أدري ماذا أقول لك.. ولكن هل أنت مصر على السفر؟

–        ابتسم سعد.. ما بك يا عبدالرحمن؟

–        لا أدري.. ولكن لا أريدك أن تسافر.

–        لماذا؟ تعودت كثيراً على السفر.

–        أعلم ذلك.. ولكن هذه المرة أشعر بانقباض قلبي.

–        سلامة قلبك.. وابتسم.

–        أتدري يا سعد …

–        ما بك.. لماذا لم تكمل كلامك.

–        أنا أحبك.

–        وأنا أيضاً.. وربت على كتفه.. وموعدنا في الجنة.

قطع حديثهما صوت أحد الطلبة.. هيا يا بطل.. ستتحرك السيارة إلى المطار.. انزل بسرعة. سحب سعد حقيبته وألقى التحية على عبدالرحمن ثم جرى إلى الخارج.. ثم عاد وعانق عبدالرحمن.. لا تنسني من دعواتك.

بقي عبدالرحمن ينتظر الأخبار من سعد.. وفي اليوم التالي اتصل سعد يبشر عبدالرحمن بانتصاره في البطولة.. وسيعود بعد يومين.. شعر عبدالرحمن بنوع من الراحة.. وقام يقلب نظره في الغرفة.. بدا له المكان موحشاً من غير سعد.

يا الله.. كيف يتغير كل شي حولنا إذا بقينا لوحدنا.. هاهنا كان يجلس.. وهنا يمد رجليه كم عاتبته على هذه الحركة.. قلت له أن الجدار سيتسخ ولكنه لا يلتفت إلي.. كان يجيب سأضع فوطة هنا وتنتهي المشكلة.. وهناك أوراقه وأقلامه.. لو أن رجلاً أحب أولاده كما أحب سعد أوراقه لكانوا أسعد أبناء.. ابتسم عبدالرحمن.. أوراقه هنا.. أقدر له ثقته، وسأكون أهلاً لها.. لن أقرأ شيئاً وانقبض صدره.. إلا إذا … رحل.

وهذا الشيء هنا.. سبيكة فضة نقش عليها أول حرف من اسمه وبجانبه حرف الهاء.. ترى ما سر هذا الشيء.. لا يهم.. سأنتظر عودته اشتقت له كثيراً.. المكان موحش من غيره.

في اليوم التالي استيقظ عبدالرحمن على صوت الهاتف.. كان المتصل أحد الأشخاص من النشاط الرياضي.

–        عبدالرحمن؟

–        نعم من هناك.

–        أنا المنسق الرياضي للفريق.

–        …

–        لا أدري ماذا أقول لك.. ولكن …

–        طار النوم من عين عبدالرحمن وقاطع الرجل.. ماذا؟ تكلم كيف حال سعد؟

–        لا أدري حقيقة.. لقد أصيب في حادث.. وهو في حالة خطرة في المستشفى.. فقط كان يردد كلمتين.. اسمك.. والأوراق.

لم ينتظر عبدالرحمن لينهي الرجل كلامه.. لقد مزق الألم قلبه.. فلم يعد يشعر بشي حوله.. وفي المساء طار الخبر في كل مكان.. أن سعداً لقي نحبه متأثراً بجراحه.

 

(3)

هذه هي أوراقه.. أبنائه.. كل حياته.. رفيق دربه.. وسمير ليله.. كم كنت بعيداً في قربك.. قريباً في بعدك.. عانق عبدالرحمن الأوراق.. كأنه كان يشعر بأنه سيرحل.. تركها كلها لي.. وقصاصة صغيرة كتب فيها:

“أخي.. إنما أنا كاتب.. أسجل بالقلم مشاعر القلوب.. ربما ليس قلبي.. ولكن آلاف القلوب الحائرة.. لا تعجب من كلامي ففي النهاية ستجدني قلباً ينبض.. ويحمل من المشاعر الكثير”.

ترى أي نبض هذا الذي أخفيته كل هذه السنين.. وببطء بدأ يقرأ الأوراق.

“أعلم أن الكثير سيتعجب من مشاعري.. وأنا كذلك أتعجب منها.. لم أشعر بشيء كهذا من قبل.. ترى أهو الحب؟

أضحك كثيراً لهذه الفكرة.. لا أظن أن رجلاً مثلي يعرف الحب أبداً.. الحب يحتاج قلباً رقيقاً ولكنني قاس نوعاً ما.. أو على الأقل سريع الغضب”.

بل كنت أرق قلب عرفته يا سعد.. ولكن قسوتك كانت على نفسك فقط.. وغضبك كان في الحق.. وكل من عرفك يعلم هذا عنك.

عاد للقراءة ثانية “هل سيصدقني أحد إذا قلت له أنها أطهر وأرق فتاة عرفتها الدنيا.. سيقول لي البعض هذه أحلام عاشق ولتكن كذلك لا باس يكفي أنني أراها بهذه الصورة.. ستصبح بإذن الله شريكة حياتي.. ولا يهمني أن يراها الآخرون بهذه النظرة.. في الحقيقة أغار عليها كثيراً.. أحياناً نرحل في سماء من نحب، ونظل نحلق فلا تتعب أجنحتنا.. ولا نشتاق للأرض.. ولكن هل سنموت في النهاية؟

هل تعلم بحبي لها.. وهل ستحبني يوماً كما أحببتها.. ربما، ولكن إذا لم يكن لي نصيب فيها فأنا أرجو أن يجمعني الله بها في الجنة.. هناك بعيداً عن هموم الدنيا “

آهـ يا سعد.. هذا سرك إذاً.. حب مكتوم في صدرك.. تأبى عليك رجولتك الخيانة والعبث.. ويأبى واقعك من اللقاء.. أهو كذلك؟

” أتمنى لو حادثتها ساعة.. سترفض أعلم ذلك.. وسأرفض لأنها رمز الطهارة.. ليست مثلي.. يكفي أنني عرفت طريق الخير منذ أن أحببتها.. يظن البعض أن وقوعي في الحب شيئاً غير طبيعي.. لماذا؟

أليس لي قلب؟؟ ألا أشعر بالصفاء فيها؟؟ آهـ لو تدري كم أحبها “

ليت كل الرجال مثلك يا سعد.. قلب لا يعرف الشك.. ويداً تمتد لعدوها بالورود فماذا ستعطي الصديق.. أكمل يا رفيق العمر.. فلا زلت أتابع معك.

” زميلي في الغرفة.. شاب طيب من أسرة صالحة.. أحبه، ولكن ماذا سيقول لو علم أنني أحب فتاة.. أحب أن يعلم.. ولكن أريده أن يعلم أيضاً أنني لم أفكر في أمر مشين أبداً.. ولم أقدم على خطوة لا تليق.. هي جوهرة أصونها وأحفظها في عيني.. ولكن ربما من الأفضل ألا يعلم بشيء.. قد أخسره ويظن بي السوء”

بك أنت؟!!.. عجيب أنت يا سعد.. وهل عرفت أنقى من نفسك؟ كنت ألجأ إليك إذا اشتدت بي الدنيا وضاقت السبل لأجد قلباً شامخاً ثابتاً لا تهزه الأحداث.. ولا يضطرب.. أتراني كنت قاسياً معك؟ سامحني يا أخي.. سامحني.. كم نشعر بالندم إذا فارقنا من نحب.. ونعلم مدى تقصيرنا في حقهم.

“ترافقني في الليل بسمة ودمعة.. بسمة لذكراها.. أراها في عباءتها محتشمة خافضة رأسها في حياء.. ودمعة شوق لها.. كم أتمنى أن تكون زوجةً لي.. ولكن آهـ من الأعراف.. لابد أن تنهي دراستك وأن تجد لك وظيفة مناسبة ويكون دخلك مرتفعاً.. وعندما ألتفت حولي سأجد أنها قد طارت.. ربما من الأنسب أن أتمنى لقائها في الجنة”.

هاهي الأعراف ثانية يا سعد.. تفرق بين قلبين.. وكل أسرة تشكو.. وعيون كثيرة لا تنام.

“هل يمكن أن أخبر أختي لتخطبها لي.. لا، حتى أختي قالت انتظر لتنهي دراستك.. وربما لتنهي هي دراستها.. جيد لا باس.. فقط خطبة حتى لا يسبقني أحد إليها”.

وماذا بعد يا سعد.. إلى متى هذه المعاناة؟

 

(4)

“أتعجب من شيئين في الحب:

الشك.. والضرب.. هل يعقل لمن أحب أن يشك في محبوبته؟.. ثم إذا جمع الله بينهما هل يعقل أن تمتد يده لضربها.. أعلم أنهما بشر.. ولكنهما ليسا كالبشر.. إذا شك فيها لماذا ارتبط فيها منذ البداية.. ولماذا حرص على ذلك.. لكن من أهوى ليست كالآخرين.. وأنا لست كذلك”.

نعم يا سعد.. هذا هو.. أنت لست كالآخرين.. لأن قلبك صاف لم تعرف الفساد يوماً.. ويوم أن تضعف فإنك تعود أقوى وأنقى.

” هل مر على العالم محب مثلي.. أو حبيبة مثلها.. أكتفي منها بالطيف في ذاكرتي.. أقترب منه ثم لا ألمسه لكي لا أدنسه بشهوة.. ولو عرفتني لأكتفت مني بأقل من ذلك.. لأنها أطهر مني وأنقى.. يكفي أنني عرفت طريقي من خلالها.. رأيتها في حجابها وعفافها.. فعلمت أن قلباً كهذا لابد وأن يكون مصيباً.. وسلكت طريق ربي آملاً أن يجمعنا”.

ابتسم عبدالرحمن.. سبحان الله يا سعد.. عرفتك تنظر لكل شي نظرة تختلف عن نظراتنا.. ومن كان يصدق أن الحب سيقربك من الخير وقد أبعد غيرك.. ولكن أتدري يا رفيقي.. البعد والقرب من الخير ليس إلا نظرة في داخلنا.. وتنعكس على أفعالنا.. وقد كنت أنت قريباً من الخير وتريده.. لذا رأيت كل شي يقربك منه.

“هذه قصاصات قلب متعب.. يرحل في عالم الأحياء والأموات.. أحياء الأجساد وأموات الروح.. لن يرها أحد.. لأنهم لو رأوها لاتهموني.. ولست في حاجة لاتهامات.. لو كتب الله لي الحياة فسأسعى إليها.. ولو مت فموعدنا هناك عند الله بإذن الله.. ولكن يكفي أن أحمل لها في قلبي صدق المحبة.. حباً لم يعرفه البشر.. وفي صدري أبذر الحب ليثمر خيراً وعطاءً.. ثم أموت دون أن ألوثه ولو بكلمة.. لست عاشقاً ماجناً.. بل محباً صادقاً.. يرسل مع الليل أشواقه عله يقابل ليلها فيصلها شيئاً من نفحاته.. وفي كل سجدة يرجوا لقاءً بها”.

توقف عبدالرحمن عن القراءة.. وسالت دمعة على خده لم يكلف نفسه عناء مسحها.. ربما شعر بأن هذه الدمعة هي أقل ثمن يقدمه لقاء مودة صديق عرفه وعرف معه الصدق.. ها قد رحلت يا سعد.. وسرك الذي بقي في صدرك مسطر هنا في الأوراق.. أترى هل يمكن أن تكون هناك قلوب كقلبك؟.. وحب طاهر عفيف لم يعرف الأذى كحبك؟.. هي من تكون؟ هي في نظرك السماء ونجومها.. والأرض وأنهارها.. هي الصفاء والعطاء.. ترشد للخير وتروي أشجاره.. وأنت!!.. من أنت؟ أنت راحل غريب لم تعرف في الدنيا القرار.. تضحك وتخفي في صدرك نيران مجاهدة.

نظر إلى الأوراق في يده.. وقام بهدوء إلى آلة قص الأوراق وبدأ يقصها قطعاً صغيرة.. أعلم أن هذه رغبتك.. لن يراها أحد فلن يفهم العالم معنى أن يكون شاباً يحب في عفة.. ويموت وفي صدره هذا الحب.. ولن يفهم العالم أن حباً يقرب من الله.. وأن قلباً يشتاق ويحتسب الشوق.

أنت يا هذا عظيم.. يكفيك من حبك الصدق والوفاء.. ويكفي قلباً أحبك أن تسعى إلى اللقاء.. ربما ليس في عالمنا الصغير.. وما كنت تعنيه.. ولكن في جنة عريضة.. هناك حيث لا فراق.. نعم لن يفهمك الكثير.. ليس لأن بك خللاً.. ولكن لأنهم لم يعرفوا هذا الصفاء أبداً.. ولم يدركوا تعلق الأرواح بالأرواح.. المادة الآن تسير حياتهم فأنى لهم أن يرتقوا إلى روحانيتك.

الآن فقط علمت سر النظرة الساهمة.. وسر البسمة الغامضة.. كانت الذكريات.. ما أقسى ما نحمله في صدورنا ولا نبوح به.. وما عسانا نقول إذا تكلمنا؟.. وهل سيفهمنا أحد فنبوح له.. أم أننا نحيا في عالمنا فقط.. هذه يا سعد ليست سوى رؤى.. وأنت اخترت لنفسك الطريق ورضيت به.. حملت ألمك في صمت ورحلت.. ولم يطل بك المشوار.. ها قد رحلت الآن وكل الذي تنتظره أن يلحق بك من أحببت.

لقد انتهيت من إتلاف أوراقك.. ولكن بقي كل حرف سطرته في ذاكرتي.. وبقيت كلمة حوت كل ما كتبت.. أن قلباً أحب في صدق.. وصمت في عفة.. وطلب موعداً باللقاء في الجنة.. ورحل في صمت.. ولم تبق منه حتى الذكريات.. وأن نفساً طاهرة فاضت في سكون.. ورضيت من عالمها بفكرة.. وطلبت من الله أنساً ورفقة.

هذه أيامنا تطوى.. ولكن لن يكون لنا منها حباً كحبك.. ولا قلباً كقلبك.. ونظل نرجوا ما كنت ترجو.. قلباً صادقاً يهبنا الحب والحياة.. رحلت يا رفيق دربي.. وربما رحل معك من تحب.. وسأبقى دائماً أتذكر الموعد هناك بإذن الله.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

 

التصنيفات
طائر المئذنة

ضيف الشتاء

 

كان الجو كله يوحي بالرهبة.. فرياح الشتاء تعصف في الخارج فتبدو كقطيع من الذئاب تعوي في الغابة القريبة.. وذلك الضيف الجالس أمامي يجعلني أشعر بأنني لازلت طفلاً.. كان غريباً عني بالرغم من قربه.. فآخر مرة رأيته فيها كانت قبل خمس سنوات.. كنت حينها مسافراً، لم أعِ الكثير من كلام أمي.. ولكنها قالت لي سوف ترى أباك.. ثم لم تعد تكلمني في الموضوع.. ورأيته وقتها ولكنها كانت زيارة خاطفة.. لم يلتصق في ذهني منها سوى الجلسات الطويلة التي كان أبي وأمي يقضيانها معاً وتصلني بين لحظة وأخرى كلمة طائشة لاتشكل جملة في النهاية. كان يكثر من الاعتذار وقتها، ولم تكن أمي تصدقه فيما يظهر فكانت تبتسم في سخرية.

– الجو شديد البرودة.

– نعم صحيح هذا موسم العواصف.. يبدو أنك نسيت ذلك.

– في الحقيقة لم أنسه.. بل تعمدت المجيء في هذا الوقت من السنة.

– اقترب من المدفأة.. قلت ذلك واقتربت منها ووضعت ذقني على ركبتي وبدأت أتأمل في صوت تكسر الأخشاب المحترقة.

قطع تفكيري صوته:

– يبدو المنزل جميلاً.. أليس كذلك؟

– بلى.. تبذل أمي جهداً كبيراً للمحافظة عليه..

صمت بعدها، ربما كان من الأفضل أن أشكره لأنه هو من اشترى المنزل، ولكنني لم أجد رغبة لذلك.

– كيف تجري أمور دراستك؟

– بخير..

أردت أن أقول له إنني سأرحل إلى العاصمة لإكمال الدراسة الجامعية هناك.. ولكن شعرت بالكسل وعدم الرغبة في الكلام. ران الصمت علينا لفترة.. ووجدت أنه من اللائق أن أشعره بأهميته، قلت له: – أمي قد لا تأتي الليلة.. ستبيت عند خالي.

– أعرف، ولذلك أتيت..

فاجأني رده..  وشعرت بالغضب من أجلها.. أردت أن أقوله له لماذا تركنا ولكن فضلت عدم التدخل في هذه الأمور. قطع الصمت مرة أخرى.

– أغضبت من أجلها؟

تفاجأت.. قلت في ارتباك:

– لا.. في الحقيقة… نعم ربما قليلاً.

– يعجبني هذا الشيء.. أنت ابن أبيك.

– لم أفرح كثيراً بالتشبيه.. ومع أنني سمعته مراراً من أمي وجدتي إلا أنني تمنيت أن لا أشبهه.

– ربما تتساءل لماذا فعلت ذلك؟

قالت لي أمي ذات مرة إن أبي يقرأ الأفكار.. ولكن ما قاله لي أذهلني مرة أخرى.. قلت له متظاهراً بعدم الاهتمام:

– لماذا تظن ذلك؟

تنهد ثم قال:

– لأن النفس الإنسانية هكذا.. كثير من الأمور يا بني لا تفهم في وقتها.. نحتاج وقتاً لنفهم لماذا حدث كل ذلك.

تأملته دون أن أشعره بأنني أراقبه.. عروق يديه تظهر بشكل ملفت للنظر.. وشعر أشيب في جانبي الرأس.. ونظرة حادة انعقد فوقها حاجبان جميلان.. شفاه ممتلئة.. وعيون أنهكتها النظارات.. هكذا بدا أبي وهو في الخامسة والأربعين.

– تابع كلامه بهدوء.. لقد كبرت وبدأت تفهم الحياة.. ولكنك تحتاج وقتاً لتكون خبراتك.. وعندما تصل لمرحلة النضج ستدرك الكثير من المعاني.

– …

– هل تحب أمك؟

تعجبت من السؤال وقلت:

– نعم بالتأكيد.

– ربما تكون متعباً لها أكثر مما تكون مفيداً.. حين تفكر فيك أمك وتحمل همك ولا تساعدها عندها ستكون عبئاً. وربما كان هذا سبباً من الأسباب التي جعلتني أرحل يوماً ما.

– أهذا عذر؟

– ربما يكون عذراً.. ولكن هذا وقته.. أنا أعلم أنك سترحل لتكمل الجامعة في العاصمة.. لقد كبرت يا ولدي.. وآن أن تفهم ماذا حدث. لم يكن الأمر بيدي ولا بيدها.

– وأنا؟

– أنت أكبر الأسباب التي جعلتني أضع حدًّا للحياة.. كان لابد أن تعيش أنت، وهذا يعني رحيلي.

انقطع الكلام بيننا وكأننا لم نعد نريد الحديث في الماضي.. وفجأة وقف وقال:

– إذاً يا ولدي الحبيب سأرحل الآن.. آمل أن أسمع أخباراً جيدة عنك.

– إلى أين؟ العاصفة قوية…

وقفت ووقف وربت على كتفي وقال:

– لا عليك، لقد تعودت عليها.. لابد أن أمك أخبرتك أني أحب الثلوج.. كدت أموت ذات مرة من أجل أن أراك أنت وأمك.. كنت صغيراً وقتها.

ابتسمت وقلت:

– أدري..حدثتني أمي بذلك.

– بلغها سلامي.. وابق على اتصال بي.

فتح الباب في عزيمة وخرج متلفعاً بمعطفه.. بقيت واقفاً أراقب خطواته على الثلج.. لم أهتم بالعاصفة.. كان الثلج يضرب وجهي بقوة.. ومن أجل ذلك الإنسان كانت دموعي تسيل.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

عصا الغريب

الوقت منتصف الليل.. ونسمات باردة تداعب خصلة شعر تدلت على جبين الغريب.. وابتسامة منكسرة ترتسم على شفتيه.. ونظرة بعيدة ساهمة تروي قصته.. وعصا من خشب الزان تعانق ظلال نار ملتهبة. وأصوات مختلطة تمزق صمت الليل.. ذئب يعوي في البعيد.. حطب تأكله النار.. وصوت رياح خفيفة يضفي رهبة على المكان..  أحس بالبرد يلامس ظهره فارتجف.. ضم رجليه إلى صدره واتسعت ابتسامته.. ورحل مع الذكريات.

يريد أن يشعر بالاستقرار.. تذكر بداية قصته.. تخرجه من الثانوية وانتقاله للدراسة في مدينة أخرى.. أبعدته تلك الفترة عن أسرته كثيراً.. ومع أنه كان دائم الاتصال بهم، إلا أنه شعر بغربته يوم أن عاد إليهم بعد التخرج.. حتى تلك الفتاة التي اختارها للزواج لم تكن بأسعد حال من أسرته، ولم تفلح في كسر حدود صمته.. أو إخراجه من شعور الغربة الذي يسيطر عليه.

ارتاح لمنظر الجمر.. وشعر بالدفء حين قرب يديه وجسمه من النار.. ترى كيف ينقل هذا الشعور إلى عواطفه؟ الجمود بينه وبين الناس، والعلاقات المحدودة، والرغبة في الابتعاد، انهماكه في عمله الذي أخذ نفسه ووقته، بدت كل تلك الذكريات صوراً تومض مع لهيب النار.. تمنى لو يشعر بهذا الدفء في العالم من حوله.. لم يكن يؤنب نفسه في تكوين شخصيته.. فهو الطالب الواضح، الصريح.. يحب أن يحدد أهدافه، ويسعى لتنفيذها في قوة وصلابة.. ولكن البعض لا يوافقه في إصراره العجيب.. أخذ جمرة وألقى
بها وسط الجمر ووضع إبريق ماء وعاد لتأملاته.

ابنه بدأ يأخذ طباعه.. يقولون إنه عنيد، ولكنه سعيد برؤية ابنه بهذه الصورة.. ليس عنيداً، ولكنه شجاع وجرئ.. أدبه كأحسن ما يكون الأدب، وعلمه أن لايسكت على الظلم.. ربما هذا مايزعج البعض منه.. حتى ابنه يقضي وقته بين الكتب والحاسوب.. ويأنس للبحر والجبال.. إذاً هو صورة من أبيه. ابتسم لهذا الخاطر.

شعر أن الوقت تأخر فقام إلى المكان الذي أعده لنومه.. مغارة صغيرة في جبل مفتوحة من الجانبين ولكنها تضيق في أحدهما، أغلقها من تلك الناحية ببعض الصخور، وفي طرفها بقيت النار مشتعلة توفر له الدفء ونوعاً من الأمان.. أغمض عينيه في محاولة لاستراق غفوة يرتاح من عناء يومه وطول الطريق.

عادت له الذكريات.. الوظيفة التي يطمح إليها الكثير ممن هم في سنه، وكلمات الإعجاب التي سرت في عائلته.. وغيرة البعض منهم من التوفيق الذي ناله.. وانتقاله بزوجته إلى مدينة جديدة.. ثم الترقية السريعة التي لم تكن تخطر على بال.. والمعاناة التي أعقبت تلم الترقية والخلاف بينه وبين بعض رؤساء الأقسام في التعامل مع اللوائح والأنظمة التي تخص المؤسسة.. كل تلك الأفكار زاحمت رأسه ومنعته من
النوم.

ارتفع عواء ذئب قريب نقله من عالمه إلى عالم الذئاب.. كم يغبطهم على رفقتهم.. تمنى لو كان ليلاً أو ذئباً.. لا يهم المهم أن يكون واحداً منهما ليترافق مع الآخر. وتذكر الصعاليك وعشقهم لليل وأنسهم بالذئب. فابتسم في حزن.. كان بعض الصعاليك شريفاً في قومه، ولكنه تمرد على بعض الأوضاع التي سادت في الجاهلية وخرج على قومه.. وبدا له أن التاريخ يعيد نفسه في صورة أكثر تحضراً، وأكثر وحشية.. ففي عصر
الصعاليك كان الناس يحفظون العهود ويكرمون الضيف ويتمثلون بالعادات الحسنة إضافة إلى الشجاعة النادرة وعدم الغدر. أما الآن فقد ضعفت الروابط الاجتماعية وحلت مكانها ماديات مقيتة في التعامل مع الآخرين، وأصبحت المصالح هي الأساس في العلاقات.. اخدمني أخدمك.

عاد لصوت الذئب أحقاً يأنس له؟ لماذا؟ ألهذه الدرجة توحشت نفسه فعاد يأنس للذئاب أكثر من البشر تماماً كالصعاليك؟ إنه لم يطلب سوى الحياة الكريمة.. كل الذي أراده من الناس الصدق.. والحرية والطهارة.. لا يريد الظلم.. أراد أن يكون لله، ويحب لله.. أراد أخوة لاأطماع فيها ولا رغبات خاصة.. أراد أن يقول الحق في هدوء وتقدير للمقابل ويقبله الآخر في رضى وسعادة.. أكانت هذه الطلبات مستحيلة؟ هل هي ثقيلة حتى على الأخيار؟ لماذا شعر بفجوة بين النظرية والتطبيق؟ لماذا يتشدق الناس بالمبادئ ثم يقفون عاجزين أو بالأصح غير راغبين في تطبيقها على حياتهم؟

شعر بثقل الأسئلة على نفسه وتردد الإجابة في صدره.. وبدأ النعاس يغزو عينيه.. لم يطل الوقت في التفكير فقد بدأ يرحل في عالم الأحلام.. هادئ النفس قريرها.. قام من نومه قبل الفجر.. وتوضأ من ماء قريب، ووقف يصلي.. شعر أنه انقطع عن الأرض بصلاته ومناجاته.. كان يحتاج للاتصال بالله، وأحس أن نفسه سكنت.. اضطجع على جنبه الأيمن وبدأ يستغفر الله وينتظر وقت الفجر.. دخل الوقت فصلى السنة،
ثم صلى الفجر..  وفي صمت حمل عصاه وتابع المسير.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

الضياع..

لست من النوع الذي يتصنت على جيرانه أو يحاول كشف أسرارهم.. ولكن الوضع مع جاري عادل مختلف.. فذلك الطالب الهادئ الرقيق جعلني أتطفل وأرغب في معرفته أكثر. بدأت القصة عندما سكن بجواري، وهو يدرس في المعهد العالي للموسيقى.. كان هادئاً تأنس النفس لمرآه..  وكنت ألتقي به في السلالم أو عند البقال فيحييني في خجل وينصرف.. كنت أرى خلف ابتسامته لمحة من الحزن، تخبرك أنه من تلك الأسر التي تربت في النعيم ثم أدركها فقر فبقي نقاء الأصل وهذب الفقر نفوسهم.

وكان يحمل معه آلته في كل مكان.. وكم رأيته في الحديقة القريبة يحضنها وينظر إلى النهر وقد رحل في عالم غير عالمنا.. أمرّ قريباً منه فلا يشعر بي فأعلم أنه غارق في تأملاته.. عجبت لمثله يحمل همًّا وهو في سن الانطلاق.. وظننته من النوع المتشائم في البداية، ولكن لقاءاتنا المتعددة وأحاديثنا العفوية كشفت عن نفس حرة منشرحة.. ولكن الحياء يمنعها من الخلطة.. والشعور بالغربة يبقيها في عزلة.

الليالي في بيتي الهادئ تجعل لدي وقتاً لأتابع معزوفاته.. ومع أنني لست من النوع الذي يهتم بالموسيقى وبالفنون إلا أنني كنت أحب سماع مقطوعاته.. كان متقناً يحملك مع الأنغام في عالم من التأملات.. عزفه الهادئ يعكس شخصيته.. واختياره الأوتار الحادة يجعلك تشعر برغبته في الصراخ كأن شيئاً يؤلمه.. ولكن العجيب أنني كنت أسمعه يبكي في كل ليلة، هدوء الليل في هذه المناطق.. والطريقة التي تبنى بها البيوت في المدينة يجعلانني أسمع بكاءه وأشعر بألمه وكنت أتعجب وأتطلع إلى معرفة مايجري في غرفة ذيالك الصغير.. وكم مرة قمت من سريري ولبست معطفي لأذهب إليه.. لعله يشكو من شيء فأقف إلى جواره، ثم يدركني الحياء فأقول وما شأنك أنت.. رجل في بيته ويبكي ربما وصلته رسالة من أحد أهله فآلمته.. وربما يبكي غربته وبعده عن موطنه.. فأعود إلى فراشي ثانية وأدعو على تطفلي وعلى الموسيقى التي سببت لي هذا البلاء.. ولكنني في النهاية عزمت على الحديث معه وبدأت تحين الفرص.. حتى جاءت الفرصة سانحة في أحد الأيام.. وكان الجو صافياً والنسيم عليلاً فوجدته في الحديقة يقرأ كتاباً فاقتربت منه.. فلما رآني هش لي ودعاني للجلوس فاقتربت منه، وحييته بابتسامة وانطلقنا في حديث عن الجو، والأهل، والغربة، والدراسة، والتخرج، والوظيفة، والزواج.. فسألته..

– عادل.. هل تشكو من أي مرض؟

تعجب من سؤالي.. ورد بنفس متوقدة..

– لا ولله الحمد.

– هل تحن لأهلك؟

– الحنين وارد بلا شك.. ولكنني أشعر بالراحة هنا أيضاً.. حتى إنني أفكر أن أبقى هنا بعد تخرجي.

– متى ستتخرج؟

– بإذن الله هذا هو الفصل الأخير.. ولكن …

– لكن ماذا؟

صدرت عن صدره آهة عميقة شعرت بحرارتها تحرق قلبه.. ثم رد في مرارة..

– وماذا بعد؟

– بعد التخرج.. يأتي التعيين بإذن الله.

– التعيين … طلب الرزق بالمعصية؟

– …

– ربما تريد أن تصل إلى سبب بكائي..  أليس كذلك؟

فاجأني بالسؤال.. فلم أرد عليه..

– الحقيقة أنني شعرت أنك سمعتني.. والمشكلة يا أخي أن منازل الورق التي نعيش فيها تفضح كل شيء حولنا.

– إذاً.. ماهو السبب يا عادل صارحني.

– اسمع يا أخي.. لقد نشأنا في بيوت بسيطة.. وكنا نعرف أن الله يعطي النعم لأننا نعبده.. فإذا عصيناه تحولت هذه النعم.

– وأين المعصية في حياتك؟

– لقد كنت أشعر بالتميز من أجل دراستي.. ولكن غرق بين ماأدرسه، وماأقرأه عن تاريخ أمتي.

– ولكن هذا رزقك.. وحياتك يا عادل.. والله غفور رحيم.

– نظر إلي في هدوء وابتسم.. ثم رد.. أما الرزق فهو يأتي من الله، فلو حرم عاصياً فقد أنصفه.. وأما حياتي فما نفعها مع غضب الله.. ثم حبس عبرة كانت تريد أن تخرج واستأذن وتركني وقام.. ثم التفت ثانية وقال المشكلة أن نفسي ضعيفة تعجز عن الوصول إلى الطريق.

لم تتغير حياتنا كثيراً في الأيام التالية.. شيء واحد شعرت بتغيره.. وهو أن جلسة العزف بدأت تقل حتى انقطعت.. وصوت البكاء بدأ يتغير.. ولكنني لاحظت أنه يخرج من غرفته كل يوم بعد منتصف الليل أو قريباً من الفجر.

في البداية لم يكن الأمر يشغلني كثيراً فقد أخذتني الظنون كل مأخذ.. وابتسمت وقلت مرحلة شباب.. ولكن لما كثر الأمر شعرت بالقلق عليه.. فسهرت في ليلة من الليالي ولما شعرت به يتحرك قمت وارتديت معطفي.. وخرجت في أثره.. كنت أتبعه بحيث لا أفقده ولا يراني. كان السكون يوحي بالرهبة والطمأنينة.. أحسست أن نفسي تبتعد عني.. وبدأت ودقات قلبي تعلو.. ومع انكسار المصابيح على الجدران جعلت أذكر الله من خوفي.. حينها ارتفع صوت المؤذن محطما رهبة الليل “الصلاة خير من النوم”.. انتابتني رغبة  في البكاء.. لم أصل الفجر في المسجد منذ زمن.. سأصلي ولكنني أريد أن أعرف أين سيذهب عادل رأيته متجهاً إلى منتصف المدينة.. كنت أفكر ماذا سيفعل هناك  في هذا الوقت.. ترى هل هو على موعد مع أحد.

توقفت الرحلة عند هذا الحد.. فقد وصلنا إلى الجامع الكبير.. ودخل عادل إلى المسجد كان متوضأ فوقف يصلي ركعتين.. وبقيت أنظر إليه.. لقد عرف الطريق.. ومع وقوفه في الصف توقفت دموعه، واتخذ القرار.. ووقتها انتهى الضياع.

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

حالة نفسية

 

“هذه ليست مذكرات كما قد يظن البعض.. ولكنها جزء من العلاج.. ومرحلة أوجب علي الطبيب أن أسير فيها حتى أتخلص من مشكلتي. وعموماً تبدو لي هذه الطريقة جميلة فلست مضطراً للكلام لكي أعبر عن مشاعري.. وما أكتبه هنا ربما لا يراه غيري.. وهذا يريحني كثيراً.

في البداية لم أكن مقتنعاً كثيراً بهذه الطريقة.. ولكن وافقت لأقطع الطريق على إصرار الدكتور بأن أكتب كل شيء يدور بخاطري.. ثم سأكون مخيراً بين أن أعطيه ماكتبت.. أم أخفي أوراقي ليبقى الجميع في حيرة يفكرون في سبب صمتي المفاجئ”.

أغلق الدكتور سامي الملف.. واتصل بسكرتيره وطلب منه ألا يُدخِل أحدا.. ثم طلب كوباً كبيراً من القهوة وعاد إلى القراءة من جديد.. كان ذلك الملف يتعلق بمريض اسمه سعد.. شاب في الثانية والثلاثين من عمره.. قدم إليه قبل فترة مع رجل آخر يعرفه سامي.. وبدا بصحة جيدة إلا أنه كان يرفض الكلام أو الإجابة على أي إنسان.. ولذلك لجأ الدكتور إلى هذه الطريقة عله يخرج سعداً عن صمته ويعرف السر خلف الجدار الذي يجلس أمامه.

قلب الصفحات ليلقي نظرة على مواطن متفرقة، استوقفته هذه الكلمات “أنا لا أدري متى شعرت بالتعارض حولي.. كان كل شيء يبدو لي منقسماً البيت والمدرسة.. الأقارب والأصدقاء.. كنت أشعر أنني أعيش في المكان الواحد بأكثر من صورة.. فأبي يأمرني بشيء تأمرني أمي بعكسه في بعض الأوقات.. وفي المدرسة يطلب الأستاذ منا أن لاندخن، ثم يأتي لزميلي ليطلب منه سيجارة.. وهكذا كل شيء حولي”.. توقف سامي عند تلك العبارات وأخذ يفكر.. صحيح ربما كنا في أنفسنا نحمل تناقضاً يدركه هذا المريض.. ترى ماذا نفعل بأطفالنا؟ وأي شخصيات سنكّون فيهم.

أخذ سامي رشفة من القهوة وعاد يقرأ.. “موضوع الكتابة هذا بدأ يروق لي.. لا أدري لماذا!! ربما لأنني أشعر أنني أعبر عما في نفسي دون قيود أو خوف.. أنا أكتب لنفسي فقط.. وإذا أراد الدكتور أن يقرأ فهو مسئول عن نفسه أما أنا فسأكتب ما في نفسي.. وأعبر كما أريد.. أذكر أن المدرس ضربني وأنا صغير.. لم أفعل شيئاً.. فقط قلت له إنني لم أتكلم.. وأن الذي تكلم هو ابن المدير.. فضربني واتهمني بالكذب.. مع أنني حقيقة لم أتكلم.. يومها عوقبت مرتين.. من أجل الكلام.. ومن أجل الكذب.. مع أنني قلت الحقيقة”.. توقف سامي وأخذ يفكر.. هل أفعل هكذا في أبنائي؟ أ أنا مجرم في حق أولادي؟ هل يتكلم سعد عني؟

ترك الأسئلة وعاد يقرأ.. “يظن الدكتور أنني مريض نفسي.. أنا ابتسم الآن.. منذ مدة لم أشعر بهذه السعادة.. ولكن هل يشعر الآخرون بما أشعر؟ ترى لو طلبت من الدكتور أن يكتب كما أكتب الآن، ماذا سيقول؟” توقف سامي وأخذ يفكر.. نعم صحيح ماذا سأكتب.. أأدون مواعيدي؟.. ومشاكل العيادة المالية؟.. أم التباين في شخصيات المرضى؟.. أم زوجتي الغاضبة؟.. أم جاري الذي لم ألْقَه منذ أشهر؟.. شعر بصداع من كثرة الأسئلة وعاد للقراءة.. “ربما سيكتب كثيرا.. ولكن هل سيشعر بالسعادة مثلي الآن.. وهل سيكون صريحاً كما أفعل الآن.. مشكلة الذين لا يعلمون أنهم ليسوا بصرحاء.. أي أن من لم يجرب أن يكتب سيكذب على نفسه.. لأنه يكتب للآخرين.. ولذلك سيحرص أن يظهر بينهم بصورة حسنة”.. صعق سامي لهذه الفلسفة.. ترى من هو المريض الآن؟ لايمكن أن يكون كاتب هذه الكلمات مريضاً.. شعر أن سعداً يعريه أمام نفسه.. شعر أنه يكشف كل شيء أمامه.. كان يتقازم مع الكلمات.. كم يحتاج لشخص مثل سعد يكسر أصنام الكذب في داخله.. المركز والشهادات.. المجتمع والنفاق الاجتماعي.. كل هذا الكذب يحتاج إلى تكسير.

“منذ أن رحلت أمي رحمها الله شعرت بوحدتي.. كانت تعني كل شيء بالنسبة لي.. حتى أبي رحمه الله لم يكن قريباً مني مثلها.. كانت هي الأم والأخت والرفيقة وكل المعاني.. إذا أردت الصدق فتأمله في موقفين.. ضحكة طفل برئ.. ولمسة أم لأبنائها.. كل الصدق يرحل مع هذين”.

ألقى سامي الأوراق ولبس معطفه وخرج من المكتب مسرعاً.. لا يمكن أن يجد سعداً لأن سعداً رحل ولن يعود.. انقطع عن الحضور إلى العيادة ولكنه أرسل إليه هذه الأوراق بالبريد.. أخذ سامي يقطع الطريق في عجلة.. وفي الجزء الآخر من المدينة وقف بيت في الظلمة.. توقفت السيارة عنده ونزل سامي يجري ليقرع باباً بدا مهترئاً نوعاً ما.. وينتظر الرد.. شعر بالثواني تمر كسيف يمزق عنقه.. قرع الباب ثانية وردد الصمت صدى الباب العتيق.. وعاد سامي ينتظر الرد.. وصله صوت ضعيف.

–        من هناك؟

–        أنا.. الدكتـ..  أنا سامي.

انقطع الصوت.. ووقف سامي ينتظر أحداً يفتح له الباب.. ولكن لم يأت أحد.. وفجأة فتح وظهرت امرأة عجوز.. في السبعين من عمرها تقريباً.. غطت رأسها بشال أبيض كعادة نساء القرى.. وألقت شيئاً منه على وجهها.. و…. نظرت إلى الواقف أمامها في شيء من الشك.

–        من أنت يا بني؟

–        أنا.. سامي يا أمي.

–        … لم ترد عليه.. ولكن نشيجاً حمله الصمت حكى القصة.

–        سامحيني أمي.. وألقى نفسه على يد أمه يقبلها.

–        سامحك الله يا بني.

عاد سامي مع أمه في تلك الليلة.. وتحلق الأطفال حول الجدة وهم يجرون.. وسامي ينظر إليهم.. نعم لقد كانت حالة نفسية.. وكان يحتاج طبيباً مبدعاً صادقاً كسعد.

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)

التصنيفات
أكواخ الظلام

جيل.. بلا وطن

لم أتعود الكتابة بأسلوب أدبي، فسنوات عمري المهنية كانت بين الإدارة والأرقام، وأسلوب التقارير الذي أبتكرته وتشهد لي الشركات بالتميز فيه كان بسيطاً فقد كنت أعرض نجاحي في أرقام خالية من العواطف. أرقام مرتبة في جدول يمثلها رسم بياني ملون يعطي انطباعاً بالحالة المالية للشركة. حتى شلبي الدب الملون القماش الموضوع فوق مكتبي يشبه ألوان الإحصاء التي أستخدمها في عرض نتائجي، ولكن التجربة الجديدة لايمكن أن تعرض في أرقام فقط، فعلامات الارتقاء في الأداء والمبيعات لن تظهر الصورة الإنسانية لأصحابها.

التصنيفات
طائر المئذنة

مؤتمر الأدباء

 

 

التفتّ خلسة إلى جاري، ورمقته بنظرة سريعة.. كان في العقد الرابع، انتشر الشعر الأشيب في رأسه، ولكن ملامحه السمراء دلت على قوة. كونت رأياً سريعاً عن صفاته، التفاته الدائم إلى الخلف أشعرني بأنه فضولي يصر أن يرى كل الأحداث، لذلك لم أفكر ببدء الحوار معه، كنت أعرف من تجربتي أن هذا الصنف سيبدأ الكلام سواء أسألته أم لم أسأله.

كان المسرح مزدحماً وتنوع الأزياء يدل على اختلاف الجنسيات.. كنت منشغلاً بمطالعة مجلة أدبية، وحتى هذه المجلة لم تسلم من تطفل الجار الخِلاسي.. وفجأة وضع يده على صورة لأديب في المجلة وقال: هذا هو.

نظرت إلى حيث أشار، فوجدت رجلاً في نهاية الخمسين من عمره والناس يقفون حوله يسلمون عليه، ثم تابع جاري:

–        هذا هو صاحب المقال الذي قرأته.

ابتسمت له وشكرته وأبديت اهتمامي، ولكنني شعرت بالتذمر لقطع أفكاري.

–        هناك عديد من الناس في هذه القاعة..

 قطع جاري أفكاري مرة أخرى… رأيت من اللائق أن أرد عليه..

–        أوه نعم، بالفعل.

ثم عدت إلى صمتي.

–        انظر إلى هذا الرجل.. إنه متدين متشدد بالرغم من تحرره في كتاباته.

 وأشار إلى شخص يجلس وحيداً ويراقب الحضور بعين كالصقر.

–        من أين هو؟

–        يقيم في المهجر.. لايهم من أين هو فقد انقطع عن قومه.

شعرت بالضيق منه وعدت إلى المجلة ثانية متمنياً سرعة البدء لأسلم منه.

–        هذا هناك.. شيوعي ماركسي. هو صاحب موقع الرايات الحمراء.

التفت إلى حيث أشار.. كان شاباً في نهاية الثلاثين هذه المرة.. لايزال صغيراً… هكذا قلت لنفسي.

–        هذه الأديبة هناك.. متحررة حتى الثمالة كما يقال.. وأضاف بخبث، ولكنها مغرية أليس كذلك؟

–        رفعت عيني بحذر لأنظر إلى موضع إشارته..

فوجئت بالمظهر الذي بدت به.. كانت تحاول إخفاء سنها من خلال طبقات المكياج، فبدت مقززة بشكل كبير.

–        من أين أنت؟

–        قلت: من الخليج.

–        أوه.. حركة أدبية ناشئة تحمل قوة، ولكن..

–        لم التفت إليه، وظللت أنتظر أن يكمل كلامه.

–        ولكنها متعاكسة.

–        ماذا تعني؟

–        أعني أنها تحمل التناقضات.. أدباء بلا أدب.. وأدب بلا أدباء.

–        كيف؟

–    أسماء كثيرة تنشر لاتحمل أفكاراً ولا معاني كبيرة. وأسماء مقلة بيد أنها قوية.. ثم صمت قليلاً وأضاف.. لم تظهر في يوم من الأيام سيتآمرون عليها.

عدت إلى المجلة ثانية ولم أعلق على كلامه.

–        هذا هناك من الخليج.. صاحب موقع مشهور ولكنه يجمع من حوله من يوافقونه في أفكاره.

أغلقت المجلة بحركة لاتخلو من غضب.. والتفت إلى المسرح أتأمل الناس.. كان صوت جاري يصل إليّ وأنا أقلب نظري في الأوجه التي أراها تمر في حركة دائبة داخلة أو خارجة من وإلى المسرح، هذا هناك شاعر عربي بنصوص أوربية. الآخر مغرق في الوصف.. هذا هو التعبير الذي رايته مناسباً له. ثالث هناك شعره يحمل همومه فقط، والرابع والخامس لايختلفان كثيراً عنه. ترى أين هم شعراء أمتي وأدباؤها؟

بدأ المؤتمر الأدبي.. تناول أطروحات مختلفة، ولكنني لم أكن بينها، شعرت أنني غريب، الأسماء التي ناقشت غريبة عني، الأطروحات غريبة عن ثقافتي، كلها أسطوانات متكررة لأدب عالمي، وشعر عالمي، وقصة عالمية، لا مكان للعربية فيها. أحرف عربية بصياغة أوربية. في المساء عدت إلى الفندق واستلقيت في تعب.. سحبت جهاز الهاتف ووضعته جواري على السرير، اتصلت بإدارة الفندق.

–        مساء الخير سيدي.. كيف نخدمك؟

–        أريد أن أتأكد من حجزي لو تفضلت.

بقيت عدة ثوان منتظراً.. ثم وصلني صوته:

-سيكون الإقلاع بعد ثلاثة أيام في تمام الساعة التاسعة مساء.

–        هل هناك رحلات قبل هذا الموعد؟

–        نعم.. يوجد رحلة يومية.

–        أيمكنني الحجز فيها؟

تأخر قليلاً ثم وصلني صوته:

–        هناك رحلة في الغد في نفس الموعد.. ورحلة هذه الليلة بعد ثلاث ساعات؟

قفزت من السرير..

احجز لي على هذه الرحلة سأكون جاهزاً في غضون عشر دقائق.

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

طائر المئذنة

 

 

 

تتعلق الأرواح بالطيور والأحجار..

ولكن متى؟؟

إذا ارتبطت بقلب ونبض..

في طيور السماء حب ووفاء..

وفي أحجار الأرض أنس وعطاء..

 

(1)

 

يوم الأحد.. الساعة الواحدة ليلاً.

أبي.. ترى هل ستصلك رسالتي هذه، وإذا وصلت فهل سترد.. أشتاق لك كثيراً في غربتي.. أنت معي في كل لحظة.. وكل شيء أراه يذكرني بك.

أقيم في الدور الرابع في شقة صغيرة.. اطمئن، لا تخف على دراستي فالأمور تسير بشكل جيد.. تطل غرفتي على نهر كبير.. وفي الضفة الأخرى من النهر مسجد المدينة بمئذنته السامقة.. تقابل المئذنة نافذة غرفتي.. وفي الليل أنسج مع المئذنة الخيالات وأضع الصور.

حارس المسجد العم ناصر رجل كبير، في الخمسينيات.. لازال متمتعاً بقوة ولكنك تشعر حين تراه بقسوة الحياة التي عاشها.. أشعر أنه لا يستطيع الالتفات إلى المئذنة، ربما تحوي ذاكرته قصصاً ومواقفَ.. لا عليك يا أبي لقد عزمت على الجلوس معه والتعرف إليه أكثر وسماع قصة المئذنة منه.. التاريخ يا أبي يقول إن الإسلام انتشر هنا، إن المساجد كانت تمتلئ بالمصلين.. ولكن لماذا تتغير الأرض بهذه الصورة.. أطلت عليك يا أبي سامحني.. أنتظر ردك.

 

*      *      *

 

يوم الاثنين: الساعة الثانية عشر ليلاً.

اليوم خرجت من غرفتي.. وقررت التوجه للمسجد.. لم أزره كثيراً، كان صمته مهيباً.. يحيط به سور حجري كبير قديم.. لم تؤثر الأيام على السور، ولكن لونه تحول إلى الأخضر المسود بسبب ما نبت عليه من طحالب.. السور قوي، كأنه مصمم لمواجهة الحرب.. وفي الداخل ساحة خضراء كبيرة.. لم يعترض طريقي أحد.. فواصلت مسيري متلفتا.. كان المكان مرتفعاً وبدت لي جبال في الأفق، تسلقت السور لأرى المدينة، فرأيت ذاك النهر،كان كل شيء هادئ.. ونسمات الهواء تداعب وجهي.. نظرت خلفي المسجد يبدو شامخاً.. والمئذنة تقف في صمود.. بدت لي آثار دمار لم أتبينها من قبل.. اقتربت من المسجد.. فرأيت حوض ماء وسط الساحة الخضراء.. وحول الحوض صمم بناء دائري يحيط بالماء.. ومن حوله صف دائري من الكراسي بدا أنه لم يستخدم منذ فترة طويلة.. حاولت تخيل الصورة قبل أن يهجره الناس.. ورأيت الرجال يجلسون على هذه الكراسي ويتوضئون هنا.. وأصوات الأطفال وهم في كتاب المسجد يتعلمون القرآن.. فتحت عيني على الفراغ ثانية وواصلت مسيري متأملا.. لم أتوجه إلى المسجد بل التففت عليه.. ووصلت لباب المئذنة.. كان باباً خشبياً قديماً، لكنه جميل.. تحسسته بيدي كان ضعيفاً.. يمكن أن أفتحه لو اتكأت عليه بقوة.. خطر على بالي أن أصعد المئذنة لأرى المدينة من فوق.. وفعلاً دفعت الباب فأحدث صريراً أزعج السكون.. ووجدت نفسي داخل مئذنة مهجورة.

 

(2)

 

كانت المئذنة من الداخل مظلمة.. باردة.. وبدا لي أنها لم تستخدم منذ فترة طويلة.. كان الغبار يملأ الأرض.. والسلم الحلزوني الملتف يعانق الفضاء المظلم.. شعرت بقشعريرة تملأ نفسي.. لا أدري يا أبي أكان خوفاً أم وحشة أم هيبة للمكان.. حاولت أن أبصر نهاية السلم فلم أستطع لكن استرعى انتباهي وجود فتحات تبعث بعض النور.

ابتسمت لنفسي.. إذاً هاهنا بعض الضوء.. يمكنني أن أتسلق لأرى ماذا في الأعلى.. بدأت الصعود.. كان الطريق متعباً وبدا لي أنني سأصل إلى السماء.. عليّ الحذر فالدرج يبدو مهترئاً في بعض الأماكن.. كما أنني أجهل طبيعة المكان.. كنت أفكر هل يمكن أن يوجد أحياء في هذه المئذنة.. فكرت في الثعابين ربما وجدت بعضها أن المكان مناسباً فقررت الاستقرار فيه.. لم أفكر بالنظر إلى الأسفل فقط كنت أتخيل الصورة.. فراغ أسود عميق ولذلك واصلت صعودي إلى الأعلى.. كلما مررت بنافذة نظرت من خلالها لأرى المدينة والقرى القريبة منها.. كان المنظر يختلف كلما صعدت أكثر. أحسست بالسعادة.. بدأ خوفي يتلاشى.. وصدى خطواتي يبعث في نفسي نوعاً من الأنس.

وأخيراً وصلت أعلاها.. كانت المدينة تبدو صغيرة والجبل في الخلف قد غطى جزءاً منها.. كما بدا لي النهر كبيراً وقوياً.. وهناك رأيت غرفتي.. ابتسمت وأخذت أستنشق الهواء.. كم تبدو دنيانا صغيرة يا أبي.. ولكنها قاسية مؤلمة على صغرها.. فكرت فيك وفي أمي.. فكرت في إخوتي.. فكرت في نفسي وفي غربتي.. ومع زحف الضباب على المدينة زحفت الذكريات كالسيل تهاجمني.

أخذني الوقت وأنا في موقفي فلم أنتبه لنفسي.. اقترب وقت صلاة المغرب وعلي النزول بسرعة قبل أن تظلم الدنيا.. لمحت العم ناصر يدخل إلى فناء المسجد ومعه رجل آخر.. استدرت بسرعة لأنزل قبل أن يراني.. وفي الطريق لمحت منظراً أذهلني.. عش طائر وبداخله فرخ صغير.. يبدو أن أبويه قد هجرا العش لسبب من الأسباب فلا شيء يفسِّر، تأخرهما عنه.. بدا الصغير جائعا.. التفت حولي فلم أجد ما أطعمه به، ثم خطر على بالي أمر لا أدري يا أبي أصائبا كان أم لا.. رفعت العش بهدوء،وأخذته معي.. وبدأت في النزول السريع.

كنت أفكر طوال الطريق، ما الذي أخر أبويه عنه.. وهل قسا قلباهما فتركاه في هذه المئذنة وحيداً.. قطعت الطريق بسرعة.. أصابني الإرهاق وأخيراً وصلت إلى الأرض.

كان العم ناصر جالساً مع بعض الرجال الكبار في ساحة المسجد.. خرجت من المئذنة دون أن يلمحني أحد منهم.. ولكن لا أستطيع عبور الساحة بمثل هذه البساطة.. فقررت العبور بهدوء.

لمحني العم ناصر..

–        هيه أنت يا فتى، تعال هنا؟

–        اقتربت منهم بهدوء.

–        أووه هذا أنت يا بني.. ما الذي كنت تفعله في الخلف؟

–        كنت أشاهد الساحات وأرقب المدينة.

–        حانت منه التفاته إلى الطائر.. وما هذا الشيء في يدك؟

–        طائر صغير وجدته وحيداً.

–        أرني إياه..

–        مددته إليه.

–        هذا طائر صغير.. لا يمكن  أن يخلو العش من أحد الوالدين.. إلا إذا ……

–        ماذا يا عم؟

–        إلا إذا ماتا.. الأطفال هنا يعبثون بالطيور.. أحسنت صنعاً بأخذه. ولكن هل تستطيع الاعتناء به؟

–        سأحاول.. وابتسمت.

–        حسنا.. قم بطحن الحب له فهو لا زال صغيراً.. وهيا بنا حان وقت المغرب.

صلينا المغرب.. وخرجت مسرعاً إلى غرفتي لأطعم صغيري.. مررت بمحل صغير في الحي أحب أن أشتري منه أغراضي.. طلبت منهم كيساً صغيراً من الحبوب وركضت باتجاه البيت.

 

(3)

 

يوم الجمعة: الساعة الواحدة ليلاً.

أتدري يا أبي.. أشتاق لك دائماً وأتذكرك كلما رأيت الرجال في المسجد مسجدنا قديم تشعر بالرهبة والسكينة يملآن نفسك بمجرد أن تفتح بابه.. لو رفعت رأسك إلى السقف سترى أنه يحتاج إلى ترميم. كما أن الإضاءة فيه ضعيفة.. تفوح منه رائحة طيبة ولو لم تضع فيه عطراً.. فرش بسجاد قديم، ولكنه فاخر.. وفيه عدة أدراج خصصت لوضع المصاحف.. وقد علا الغبار أركانه.. ترى في الصف الأول مجموعة سجاد صغير، هذا السجاد خاص بالعم ناصر وببعض الرجال الذين يحرصون على الجماعة.. وفي مؤخرته وضع إناء فخار فيه ماء تفوح منه رائحة البخور.

نسيت أن أقول لك أن صغيري بصحة جيدة.. وضعت عشه قريباً من سريري، في مكان أراه وأرى المئذنة من خلاله.. وقمت بطحن الحب له.. قررت أن أسميه وحيد.. لأنه من دون أصدقاء.. أتدري يا أبي أشعر أنني مثل طائري، وحيد في عالمي إلا من الذكريات.

أصحو كل يوم.. أرسل قبلة للمئذنة وأرتدي ملابسي.. وأتوجه إلى مدرستي.. أراك هنا في كل صفحة.. في كل سطر.. في قلبي اسمان.. الأسرة، والمبدأ.. وتحت كل منهما توقيعك.

 

يوم الثلاثاء: الساعة الحادية عشرة ليلاً.

تعود وحيد على يدي وبدأ تغريده يملأ البيت.. ضحكت اليوم عليه وهو يحاول أن يتعلم الطيران.. أجنحته لا زالت ضعيفة، ولكنه سيطير سريعاً.. أعجبني عزمه ومحاولاته المتكررة.. في كل مرة يقع كنت أرفعه ثانية.. فيعود للوقوع من جديد.. وفي المساء ينام بين ذراعي. أفكر فيه الآن، أشعر أنه يفهم كلامي .. ويأنس برؤيتي.. هو صغير في حجمه، ولكنه يملأ فراغاً كبيراً في قلبي.. أشتاق له وأسابق الوقت للعودة إلى غرفتي لأجلس معه.

أتدري يا أبي.. أشعر بالألم إذا فكرت فيك.. وما الفائدة أن أمضغ الذكريات دون أن أراك.. مرارة الأيام تؤلمني يا أبي.. لماذا يقسو الناس على بعضهم؟ لماذا تختفي كل حسنات الإنسان إذا أخطأ؟ ولماذا تختفي الكف الحنون التي تقبل العائد؟

آه يا أبي.. صور العشق التي ترتسم في نفوسنا تحيينا بالأمل.. وفي قصاصات الأوراق تتعانق الأرواح.. وفي عالمك أرحل.. وتحت ظلالك أستظل.. وفي تغريد وحيدي أرى طيفك يبسم لي.. يشجعني.. ويأخذ بيدي في عالم لم أعد أميز معالمه.

أتدري يا أبي.. أصبحت في كل يوم أقص ورقة من التقويم فرحا وأشعر أنني قصصت ورقة من غربتي،معها.. وأنتظر موعد الرحيل.

 

(4)

 

يوم الأحد: الساعة الثانية ليلاً.

كبر وحيد يا أبي.. وأصبح يطير بمهارة.. كما أضحى، يخرج من الغرفة ويعود إليها.. أتدري يا أبي.. أفقده كثيراً إذا عدت إلى الغرفة ولم يكن موجوداً فيها.. أتصدق رأيته يطير كثيراً باتجاه المئذنة، شعرت أن شيئاً ما يربطه بها.

ترى هل يشعر صغيري أنه فقد أبويه هناك؟

وهل يشعر أنها منزله الأول؟

أرقبه الآن بجوار المدفأة.. أغمض عينيه وغفا.. وتركني مع أوراقي … ومعك.

آه يا أبي.. أشتاق إليك.. ليتني كنت أستطيع التحليق لأزورك.. أبتسم لهذه الخواطر، وأعود من جديد إلى أوراقي وقلمي.

 

*      *      *

 

يوم السبت: الساعة الواحدة ليلاً.

أبي.. هل هي النهاية؟ لم يعد وحيد من عدة أيام.. ترى أين هو الآن؟

فتحت له النافذة كالعادة في كل صباح، ولما عدت لم يكن موجوداً.. ترى هل رحل؟

انتظرته طوال اليوم.. وحقيقة يا أبي … بكيت من أجله.. لا أدري لماذا رحل..

بل أظن أنني أعلم.. لقد رجع إلى عالمه.. كنت شيئاً عابراً في حياته يا أبي وها قد عاد إلى دنياه.. كل شيء عابر في هذه الحياة.. حتى من نحبهم يرحلون.. تمزق الأيام الشمل فنعود في ليالي العمر الباردة نحضن الذكريات.. في هذه الغرفة يا أبي موقد.. حتى أخشابه تحترق.. كل شيء ليس سوى محطة سرعان ما تنتهي.. ومع آخر محطة تنتهي حياتنا.

 

*      *      *

 

يوم الأحد: الساعة الواحدة ليلاً.

أنا سعيد نوعاً ما يا أبي.. أتدري لماذا؟

قررت هذا الصباح البحث عن وحيدي.. لم أكن أعرف مكاناً يمكن أن أجده فيه غير المئذنة.. ومع إشراقة الشمس توجهت إليها.. لم أبالِ ببرودة الجو  في هذه الساعة ارتديت معطفي وانطلقت.. لم يكن هناك أي إنسان في الطريق.. تخيلت أن كل شيء قد تجمد.. صوت الأشجار كان هو الشيء الوحيد الذي لم يصبه الخرس.

وصلت إلى ساحة المسجد.. توجهت في ثبات نحو المئذنة.. كنت قد عرفت الطريق جيداً هذه المرة.. لم يتغير شيء منذ زيارتي لها.. كان قد مضى على الزيارة الأخيرة قرابة الثلاثة أشهر.. صعدت السلم الحلزوني مسرعاً.. وهناك في الأعلى … وجدته يا أبي.

كان وحيد قد بنى عشاً جميلاً في الأعلى، وكانت معه أنثاه.. وقد حضنا بيضتين صغيرتين.. عرفني فلم يشعر بالانزعاج مني.. مسحت عليه برفق.. ونزلت مسرعاً.. توجهت لغرفتي أخذت كيس الحبوب ورجعت ثانية.. تركته لهم واستدرت ثانية.. إلى غرفتي.

هذه المرة كانت الحياة قد دبت في كل شيء.. وابتسم الكون كله.. إلا شخص واحد كان يسير مطأطئ الرأس، يخفي دمعة.. كان ذلك الشخص أنا يا أبي.

في فراشي الآن أسطر لك هذه الرسائل.. وسأحرقها حين أنتهي من كتابتها.. لكنني واثق أنها ستصلك، وأشعر أنك معي.. للأحياء أرواح تسري عنهم وتؤنسهم.. وفي أرواح الأموات وجدت الحياة.

في كل صباح سأعانق المئذنة.. وأستمع إلى تغريد وحيدي.. وحين يأتي المساء سأجتمع بك تماماً كما كنت أفعل قبل أن تموت.

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

المهرجة

  

 

 

 

–        نعم أستطيع ذلك..

وأشارت برأسها لتأكيد كلامها.. كان كل شيء يتفاعل ليؤكد قدرتها على تنفيذ المهمة.. عيناها الذابلتان.. شفتاها المرتعشتان، يداها تشيران في عصبية وتوتر، وابتسامة منكسرة توحي بقرب الدموع… بهدوء نظرت إليها المديرة.. ثم نفثت في وجهها دخان سيجارتها وأجابت بابتسامة خليعة:

–        حسناً.. الوظيفة لك.. لنرى مايمكنك عمله.

خرجت سميرة وهي سعيدة ودموعها تجري.. كان الشتاء قارساً ومع ذلك لم تشعر بالخوف من زمهريره، فعلى الأقل لديها وظيفة تؤمن بها كسوة الشتاء لصغيريها.. بدأت حبات المطر تضرب وجهها النحيل في قسوة.. ومع ذلك كانت تمشي بسرعة دون أن تفكر في الاحتماء من هطوله.. أرادت أن تصل إلى بيتها في أسرع وقت لتقابل صغيريها وتقبلهما.. المسافة بينها وبين بيتها بعيدة، لكنها لاتملك أجرة المواصلات.. كانت سميرة فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، تزوجت منذ خمس سنوات، وأنجبت ولدا وبنتا، ولكن سامر لم يعش طويلاً ليرى نمو صغاره، فقد غادر الدنيا إثر حادث قتل قيد ضد مجهول. وهكذا وجدت سميرة نفسها وحيدة تصارع الحياة من أجل ولديها.

في بداية حياتها قررت البقاء قريباً من والديها، ولكن كثرة الأفواه وقلة الدخل جعلاها تشعر بالثقل والعبء.. ومع أن أسرة زوجها كانت ميسورة الحال إلا أنها لم تستطع البقاء معهم بسبب نظرات الأب القاسية، وكلمات الأم الجارحة.

شعرت بالبرد فأحكمت شد معطفها على صدرها.. وبدأت تسعل، هذه الآلام تعاودها منذ سنتين.. انتابتها بعد عملها في مصنع المطاط.. كانت أجواء العمل متعبة، فساعات الدوام طويلة وعوامل السلامة رديئة.. شعرت بمرارة وابتسمت.. ففي النهاية كان لابد من التخلي عنها والاستغناء عن خدماتها بسبب حالتها الصحية.

وصلت إلى بيتها وتوجهت مباشرة لغرفة جارتها لتأخذ الأطفال منها. تقيم في هذا المنزل منذ سنة ونصف.. هنا في الأحياء الخلفية من المدينة عالم آخر، عالم مليء بالمتناقضات، ففي الحي الواحد يقيم طيبو القلوب ويجاورهم المجرمون، وثمة ثمن لهذه المجاورة، يدفعه الضعفاء من دموعهم وجيوبهم، وأحياناً من أعمارهم.

–    قرعت الباب وانتظرت للحظات قبل أن تسمع وقع الأقدام الثقيلة وهي تقترب من الباب.. ثم فتح وظهرت امرأة بدينة قد عقصت شعرها إلى الخلف وارتدت قميصاً قذراً، تبتسم ابتسامة احتقار وهي تلوك قطعة “علك” ضخمة.

–        بادرتها بالسؤال.. هل وجدت وظيفة هذه المرة؟

–        نعم الحمد لله وسأباشر في الغد.. قالت سميرة بفرح.

–        حسناً.. لقد زادت الفواتير عليك، ولابد أ ن تدفعي المتأخرات.

–        سأدفع لك كل شيء.. أشكرك على اهتمامك.. هل تعشت وفاء؟

–        نعم.. لقد أطعمتها.

–        وماذا عن أمين؟

–        هو بخير.. لن أكون موجودة في الغد.. لابد أن تتدبري أمرك.

شعرت بالارتباك.. وأجابت بتلعثم:

–        ولكن غداً هو أول أيامي في العمل، ماذا سأفعل؟

نظرت إلى السقف بلا مبالاة ثم قالت:

–        إذا كان الأمر مهماً فسأجلس ولكن يجب أن تضاعفي الثمن.

ارتبكت سميرة، ثم أجابت في استسلام:

–         حسناً، سأفعل.

عادت إلى شقتها تحمل طفليها.. كانت مظلمة ورائحة الرطوبة تملأ المكان.. أضاءت النور في حين بدأ الطفل في التململ.. حتماً سيبكي الآن.. إذاً هو جائع. شعرت بمرارة، كانت تعلم أن جارتها تستغلها، ولكن لاحيلة لديها.. هي مضطرة لتحمل الوضع هكذا.

في الصباح انطلقت مسرعة من منزلها.. أطعمت صغيريها.. ابنتها وفاء متعجبة وهي ترى أمها ترتدي ملابسها للخروج في ذلك الوقت. سلمت صغارها لجارتها وانطلقت إلى المدرسة.. كان عليها ارتداء ثياب العمل للبدء في أولى مهامها.. وجدت المراقبة قد وصلت إلى الموقع قبلها.. نظرت إلى ساعتها  وسجلت شيئاً في أوراق كانت تحملها، ثم طلبت منها التوجه إلى سيارة الشركة لأخذ الملابس الخاصة.

كان عليها أن تقوم بدور أرنب يلاعب الصغار.. وجدت في حقيبة السيارة حقيبة كبيرة رسم عليها أرنب وردي.. أخذتها، وسارعت بارتدائها، واقتربت من فناء المدرسة.. وبمجرد أن رآها الأطفال أخذوا يتدافعون واصدموا بها حتى كادت أن تقع.. شعرت بالسعادة لهذا الجو، تذكرت صغيريها تمنت أن يكونا هنا مع الأطفال.. ربما تعجز عن اصطحابهم معها.. أخفى القناع الباسم الذي ترتديه دموعها.. لاتدري لماذا بكت.. من أجل أطفالها، أم حزناً على نفسها.

ارتفع صراخ طفل بسبب التدافع.. اقتربت منها معلمة مراقبة، نهرتها، طلبت منها الوقوف بعيداً عن الأطفال.. تنحت جانباً، اقتربت منها المراقبة وعادت لتسجيل شيء في أوراقها، ثم طلبت منها أن تخلع الرداء وتتوجه إلى مكتب مديرة المدرسة.. لم تفكر كثيراً في السبب. توجهت مسرعة إلى هناك..

–        أوه يا عزيزتي.. يؤسفني أن أبلغك هذا الخبر.. لقد اعتذرت المدرسة عن مواصلة البرنامج.

–        شعرت بالصدمة ولم تدر ماتقول.

تابعت المديرة..

–        ولذلك يمكنك أن تراجعي المراقبة لتصفي معها حقوقك.

–    أرادت أن تجيب.. ولكنها لم تجد شيئاً يمكن أن تقوله.. استدارت في صمت وتوجهت إلى الخارج.. كادت أن تسقط على الأرض.. لم تتوجه إلى المراقبة، غادرت المدرسة وأخذت تسير في طرقات المدينة على غير هدى.. الجو مكفهر ينذر بالمطر.. بدأت حبات المطر تتساقط.. الهواء البارد القادم من البحر جعلها ترتجف.. نظرت إلى حذائها، أصبح ممزقا ولكنها لم تفكر في تغييره..

وصلت إلى بيتها.. وفي صمت أخذت طفليها ولم تجب سؤال جارتها عن موعد السداد.. ذلك المساء شاهد القمر ثلاثة أشباح يلتحفون الظلام.. من هم؟ أين ذهبوا؟ ماذا حصل لهم؟ لم يجد القمر إجابة.. وطوى البحر الأسئلة.

 

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)