التصنيفات
طائر المئذنة

أماني القطار

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تسافر فيها ولكنها شعرت بتغيرها عن المرات السابقة.. كل شيء حولها مختلف.. حتى المقاعد في القطار العتيق بدت بشكل آخر هذه المرة.. وضعت حقيبتها على المقعد المجاور وانشغلت بمراقبة الطريق والناس يتحركون جيئة وذهاباً.. ازدحمت الأفكار في رأسها ومرت خمس السنوات كومضات نقلتها عبر الزمن.. وبنظرة تائهة كانت تفكر في محطات الحياة.

بدأ الركاب يصعدون.. بين لحظة وأخرى ترفع رأسها لترى راكباً جديداً، وتعود إلى تفكيرها.. هذه امرأة مع أطفالها، ربما جاءت في زيارة أهلها.. لكنها لا تلتفت لحركة أبنائها الكثيرة.. بعض الناس لا يراعون الذوق العام.. تململت في مقعدها.. لماذا شعرت أنه غير مريح؟ هل لأنها لم تعد ملزمة بالسفر في القطار، لذا أمست تشعر بأنه غير مريح؟

هذا الرجل العجوز مر عليها من قبل.. لابد أنه يقيم في منطقة نائية.. ربما يزور المدينة باستمرار لمراجعة دائرة من الدوائر.. ربما يأتي للحصول على مرتبه.. أو له تجارة أو شيء من هذا القبيل.. كلا، شكله لا يؤهله لأن يكون من المستثمرين.. بدا لها كبيراً في السن متعباً.. إذاً ربما كان الراتب هو سبب زياراته الكثيرة، أو الضمان الاجتماعي ونحوه. شعرت بالحنين لأبيها ترى لو كان على قيد الحياة هل كانت ستحتاج للسفر وحدها بالقطار؟ كم تمنت لو أنها رأته وارتمت في أحضانه لتشعر بالدفء والأمان.. صحيح أن من حولها حاول أن يوفر لها الجو الأسري الذي تحتاجه، ولكن بقي مكان الأب شاغراً لم يملأه أحد.. ولا تدري إن كان سيملؤه أي إنسان بعد أبيها.

صعد للقطار شاب في العشرينات.. لقد رأته أكثر من مرة في المجيء والذهاب.. ربما كان طالباً في الكلية، شعرت بشيء غريب جعلها تفكر فيه.. لقد كانت رحلات القطار نوعاً من الرفقة لم تشعر به إلا الآن.. خمس سنوات ليست بالشيء القليل.. كثيرة هي الوجوه التي مرت عليها في خمس سنوات.. أخذت تفكر في هذا الأمر.. ترى هل شعرت بالانتماء لأي منها في يوم من الأيام؟

بدأت تستعرض المواقف علها تجد في مخزون الذاكرة ما يساعدها على التفكير.. هذا الرجل العجوز، وذاك الشاب، ومجموعة أخرى بدا أن منهم الموظف، ومنهم الطالب.. وجوه تتجدد، ووجوه تختفي، وكل شيء يتغير حولها. حتى عربات القطار تغيرت وجدِّد جزء منها.

عادت إلى التفكير في أبيها وبيت أهلها.. هل تشعر بالرغبة في الاستقرار من أجل تكوين أسرة أم من أجل شعورها بفقدان أبيها؟ ماهي مواصفات الرجل الذي تتمناه؟

مناظر الصحراء تحيط بالقطار.. كم تشبه هذه الصحراء حياتها… الجفاف في المشاعر، ابتسمت وتذكرت ابتسامة أمها.. لا، لا يمكن أن تظلمها.. لقد كانت أمًّا مثالية طيبة لأبعد الحدود.. ولكن هذا لم يغير من أنها هي وأمها كانتا تعيشان في شيء يشبه الصحراء.. ذكرها مرور المناظر السريع من أمام نافذة القطار بمرور أربعة وعشرين ربيعاً من عمرها.

عادت إلى الصحراء وتحركت في مقعدها في ضيق.. ترى لماذا تشعر بطول الطريق هذه المرة؟ ربما لأنها لم تعد مضطرة لركوب القطار بعد اليوم.. إذاً ماهي مواصفات الرجل الذي تراه يقتحم حياتها ليوفر لها الحب والاستقرار؟
سرحت مع كلمة الحب.. ترى هل الحب هو الشيء الناقص في حياتها؟ ما هو الحب؟ هل هو الحنان؟ الرحمة؟ لماذا يرتبط أبوها بكل الذكريات المؤلمة؟ لماذا شعرت بالحاجة إليه حين واجهت صعوبات الحياة؟ تراها تفتقد الأمان وتتمنى أن تراه في صورة رجل تؤسس معه بيتها وأسرتها الصغيرة؟

توقف القطار في محطة أخرى.. صعد أناس ونزل آخرون.. وعادت للتفكير في حياتها من جديد.. بدا قلبها يشبه هذه المحطة في بعض الجوانب.. دخول أناس لحياتها ثم رحيلهم ووصول غيرهم.. التشابه في الفترات التي يبقونها.. ربما طالت أو قصرت ولكنها تشترك في الرحيل.. لماذا؟
سافرت مع السؤال.. هل لأن المقاييس التي سمحت لهم بالبقاء والرحيل لم تكن صحيحة؟ هل لأنها كانت تكتشف في كل صداقة تمر بها في سنوات الدراسة تبايناً في التفكير بينها وبين الأخريات؟ هل لأنها كانت ترتبط بالناس نتيجة حاجة عاطفية، ثم تكتشف أن زميلاتها لسن جادات مثلها في تقدير معاني الأخوة؟

ترى.. هل ستجد رجلاً يقدر هذه المعاني ويرتبط معها بصدق ويهبها الحنان الذي تريد؟ أخذها السؤال بعيداً.. وفاجأت نفسها وهي تفكر في الشاب من جديد.. ترى هل رأت فيه شيئاً مميزاً.. لم تكن تتذكر ملامحه.. ربما لأنها لم تهتم به، ولكنها تتذكر نظرته وحقيبته على كتفه.. قد يكون أصغر منها، أو أكبر.. تمنت أن يكون أكبر منها لكي تشعر بأنه الأب والـ.. زوج.

لماذا فكرت بهذه الصورة؟ هل لأنها الرحلة الأخيرة لها؟ التفتت إلى جارتها كانت تغط في نوم عميق.. بدت لها واقعية أكثر منها.. فتحت دفتر خواطرها وأخرجت قلمها وبدأت تكتب خاطرتها الأخيرة في القطار.

نظرت إلى الشيء المكتوب في ابتسامة راضية.. شعرت أنها سجلت في الرحلة الأخيرة خلاصة تجربة أليمة بقدر سعادتها.. كانت الكلمات قليلة ولكنها بدت معبرة كثيراً.. مرت بعينيها بين السطور.. حياتنا قطار.. والأسرة هي محطته الأخيرة.. الأسرة مجموعة ثوابت وليست مجموعة ركاب يمرون ويرحلون.. من يأتي في المحطات ربما لايستقر ليبني بيتاً، ولكنه يرحل في المحطة القادمة.. لايصلح البناء على عربة في قطار.. للحياة معنى أعمق من ظاهر الألم.. ففي الألم ينبت الفرح.. أقدار الله كلها خير، وشريك الحياة سيأتي في موعده المكتوب.. القلب الذي ينتظر كل نهاية أسبوع في المنزل يستحق بعض العناء، والعودة للأسرة الحقيقة تعني أصالة وتميز.. مشاعرنا في سفرنا الصغير تشبه تغير الصور في النافذة، كل شيء سيتغير، وتبقى لكل بيئة صورها التي لا تناسب غيرها.. توقف القطار في المحطة الأخيرة وعلى الصفحة البيضاء دونت عبارات تبتسم من بين الدموع.

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)