التصنيفات
طائر المئذنة

رحلة إدارية

رحلة إدارية

كان المكان يشبه منتجعاً ريفيًّا بسبب كثرة الخضرة والأشجار وخاصة حول الوحدات السكنية وتحت الشرفات الرئيسة للمباني.. ولو تخيلنا المكان لعرفنا أنه صمم بطريقة تدل على ذوق تجاري لطيف.. ففي يمين الداخل إلى المجمع أقيم صف أبنية علاه قرميد أخضر، ولم يكن في الحقيقة سوى مبان متعلقة بالخدمات العامة، وقد أقيم طريق صخري لطيف طليت أطرافه باللون الأبيض، ثم يتفرع الطريق بطرق أصغر تؤدي إلى المباني ذات الدور الواحد.

واهتم البستاني بتزيين هذه المنطقة إذ إنها مسئولية الإدارة، ولذلك بدت غاية في التشذيب والجمال.. وعلت في الأقصى اليمين نخلة استوائية أعطت المكان مزيداً من الشاعرية.. وفي أسفلها مجموعة كراس شمسية ومكان معد للشواء.

وفي الأمام ومباشرة بعد وحدات الصيانة والخدمات، صف طويل من الوحدات السكنية الرائعة التصميم، والمغطاة بقرميد أحمر نقشت عليه أرقام الوحدات.. وكل وحدة لها مدخلان يؤدي كل واحد منها إلى دور مجهز بغرف نوم وغرفة طعام ومطبخ وغرفة ألعاب وبعض المنافع المهمة وصالة داخلية وشرفة خارجية تصلح لجلسات الشاي والقهوة التركية المشهورة في هذه المنطقة.

وينتهي الصف الطويل بمسبح أولمبي في صالة زجاجية يلحق به ملحق خشبي تغطيه الأشجار ويقع فيه النادي الصحي و السونا والعلاج الطبيعي وغير ذلك مما يهتم به أهل الرياضة.

في الجهة المقابلة تماماً للوحدات السكنية تقع صالة اجتماعات كبيرة مجهزة بأحدث المعدات من وسائل عرض، وخرائط، ونظم معلوماتية وغير ذلك.. وبالقرب من المدخل الرئيس على يسار القادم حديقة استوائية رائعة يتوسطها مبنى صمم على شكل معبد صيني، واتخذته إدارة المجمع مقرًّا لها، وبجانبه وضعت بعض الأقفاص المرتبة على هيئة حديقة حيوان صغيرة وضع فيها بعض الحيوانات النادرة.

هذا هو المكان الذي قررت البعثة إرسالي إليه للاجتماع السنوي لعلماء الإدارة والتخطيط.. وكنت أرى في وجه الرجال نوعاً من الرفاهية المقيتة التي هي في حقيقتها كسل وجبن وتعلق بأسباب الحضارة المادية.. لم أكن متمسكاً تماماً بإسلامي ولكن المكان أعطاني شعوراً بتميزي، وتوقعت أن تطول فترة إقامتي، لذا أرسلت لأخي في طلب مجموعة من الكتب الشرعية التي تتعلق بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.

انتهى الشهر الأول في برامج مملة نوعاً ما.. ولأن الجميع حضروا بأهاليهم عداي فقد كانت لديهم برامج تخص الأسرة ولكن لم يكن لي مكان كبير فيها لاختلاف الثقافة.. وبدأت أعد مشروعي الذي سأتبناه في هذا المؤتمر الذي هو أقرب لورشة تنظير إداري، وأنهكت نفسي في البحث والتأمل والدراسة والترتيب.. حتى حان موعد إلقاء أطروحتي الإدارية.

–        أنت مجنون يا أحمد؟

–        لا.. لست مجنوناً.

–        كيف لا.. وهذه هي أطروحتك.. أتدري من ستقابل هنا؟

–        نعم.. كل أقطاب الصناعة والإدارة في مختلف دول العالم.

–        جميل.. جميل.. إذاً أنت تعرف حقاً من ستقابل.. ومع ذلك فأطروحتك لا تدل على فهمك.

–        لماذا يا دكتور؟

–        ما دخل الدين في الإدارة والاقتصاد؟

–    … سادنا لحظة صمت ,, ثم قطعتها بردي عليه، ومن قال لك إنني سأتكلم عن الدين.. أنا أتكلم عن الإدارة في عهد رسول الله صلى الله عليه والشيخين.

رد علي مستهزئاً.

–        وهل كانت هناك نظم إدارية في ذلك الزمان؟

–    ربما لم تكن مكتوبة.. ولكن السياسات التي مشوا عليها تعطي عمقاً إداريًّا قويًّا في حياتهم.. وإلا ما قامت الدولة الإسلامية بهذه الصورة القوية والمبدعة في ترتيباتها وتقسيمات المهام فيها.

كنت متحمساً للفكرة بشدة.. وبذلت جهدي طوال شهرين كاملين في دراسة بعض المقاطع التي رأيت فيها قوة إدارية وخاصة المعارك، والعلاقات العامة.. ومنها استطعت أن أرسم الخطوط الكبرى في العلاقات الإدارية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.

 وبعد كلام رئيس الاجتماع أدركت أنني سأخوض حرباً لإثبات صحة نظرياتي.. وإن كان هذا المسلم واجه الأمر هكذا فكيف ستفعل الشعوب الحمراء والصفراء.

–        معنا الآن الدكتور أحمد..

هكذا أعلن اسمي أمام الجميع وتقدمت أحمل حقيبة وضعت فيها جهاز الحاسوب الخاص بي.. ومجموعة قصاصات دونت فيها أهم المحاور التي سأتطرق إليها.

–        ألقيت التحية.. وساد الصمت.

–    ليس المهم أن أقف هنا أنا أو غيري لطرح نظريات خيالية لمعالجة أوضاع الاقتصاد.. والتصدي للنكبات والأزمات. وتوفير مستويات معيشية مناسبة للمجتمع.. ومن ثم وضع صور مثالية للتطوير. بل المهم أن آتي لكم بسبب يعالج كل ما ذكرته من سلبيات.

–    منذ أكثر من 1424 سنة خرج دين جديد على مجتمع صحراوي لا يعرف من صور الحضارة شيئاً سوى الخمر والنساء وبعض عادات فيها نبل كالكرم والشجاعة مع ما خالطها من الرغبة في المدح وغير ذلك.. ولكن رجلاً خرج من هذه البيئة قاد هؤلاء إلى تحقيق أروع الصور في السلوك والتعامل، مع معطيات الحياة لصنع النجاح من خلالها.. إنه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

سرت همهمة في القاعة الكبيرة.. ولكنني لم التفت إليها بل تابعت حديثي.. وأخذت أسرد في صور سريعة ملامح من الواقع الجاهلي، وبالمقابل صور التغير التي حدثت في المجتمع بعد إسلامه، وكيف تعامل معه أعداؤه بشدة ولكن بالمقابل وثقوا فيه ليقينهم من صدقه.

–    كانت أول صور الإدارة هي ضبط النفس في مواجهة العداء ومقابلة الإساءة بالإحسان، ومع أن العربي يرفض الضيم إلا أنهم امتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف أي منهم بأي تصرف يخالف أمره، ولم يقاتل أحد منهم، وما كانت تنقصهم الشجاعة ولكنه التغير الذي حدث في النفوس.

–    وكانت الزكاة تؤخذ من الأغنياء لتعطى للفقراء لعمل توازن في المجتمع، ثم فتح باب الصدقة لسد ثغرة أكبر، ثم كان التآخي في صورة لم يعرف التاريخ كله مثلها.. إذ كيف نتصور أن يحل أهل مدينة ضيوفاً على مدينة أخرى فيتقاسموا معهم كل شيء ويشاركونهم في حياتهم حتى لا تكاد تعرف من أهل البلد الأصليون. ..وبدأت الفتوح.. فإذا بالبدو ينتظمون في جيوش ويقاتلون في صفوف في سابقة تاريخية ما عرفها الناس وظهرت صور من الإدارة فريدة توِّجت بانتصارات في بدر، وأحد، و القادسية وغيرها. وأما بيت المال فكان مخزن الدولة.. ينتفع به الجميع تحت إدارة الخليفة.. وتكلمت عن مهام الخليفة وطبيعة العلاقة ومعالجة المواقف التي قابلوها.

كنت أتحدث في سعادة ونشوة.. ومع أن الوقت انتهى إلا أن أحداً لم يغادر مكانه أو يقاطعني، بل كان الكل مندهشاً لعرضي للجوانب الإدارية في كل المواقف التي ذكرتها، في الوقت الذي كان البعض ينزوي خجلاً من تاريخه، وقف أقطاب الإدارة في العالم يصفقون ويثنون ويعجبون كيف لم يعرض أحد هذا الكلام من قبل.. وكيف يفرط المسلمون في هذا التراث المجيد.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
أكواخ الظلام

أكواخ الظلام

اكواخ الظلام copy

كانت حجرة علوية باردة.. يضيء ظلامها نور القمر إذا أكتمل.. وشمعة تشتعل في خجل فيتوارى ضوئها على بقايا الأشياء التي لا تأخذ من الحقائق إلا اسمها.. سرير هو في الحقيقة قطعة خشب صلبة يتعب الرجل القوي من الاستلقاء عليها.. غطيت ببعض المتاع مما يسمى ملاءة وما شابه ذلك.. ووسادة خشنة غير متساوية.. وصندوق وضع بجانب السرير ليكون خزانة صغيرة للطوارئ.. وصندوق أكبر قليل رصت فيه أسمال فتاة في التاسعة من العمر.. ثوبان باليان يطل منه جسد الصغيرة من أكثر من موضع.. ومنضدة أقل اهتراءً وكرسي أكثر صلابة من السرير.