التصنيفات
طائر المئذنة

عودة الطائر

Picture2

اليوم الخميس.. الساعة العاشرة ليلاً.

قطرات المطر تلمع تحت أضواء المصابيح العتيقة.. وقلب منكسر يسير وحيداً.. يعبر فوق الجسر الخشبي ويقف لينظر إلى النهر ويتأمل.. القمر يتكسر على الأمواج والمطر يفسد سكون الماء.. وتحت قطرات العاصفة الوليدة يمضي يتجرع همومه.

هل كان يتوقع أن يرحل عنه الجميع إذا كبر ليتركوه يواجه الحياة وحده في سنيِّ شيخوخته؟.. هل تصور أن قلوب من وهبهم قلبه ستقسو عليه.. تتخلى عنه وقت حاجته؟.. هل خطر بباله أنه سيعود وحيداً بعد أن كان لديه بيت وأسرة؟

أفاق من تأملاته على صدى خطوات تعبر الجسر.. لم يلتفت إلى القادم.. تلاشت الخطوات مع قطرات المطر.. وعاد إلى تأمله.. السكون والحنين وضوء مصباح يتمايل ليشعره بالوحشة أكثر.. في هذه البقعة البعيدة عن المدينة. ترك مكانه على الجسر وتوجه إلى الغابة.. هناك حيث قرر أن يقضي بقية أيامه في هذه الحياة ولن يرافقه أحد. في بقية أيامه

بدأ يعتاد على حياته الجديدة.. خروف ونعجة.. وبعض دجاجات توفر له البيض.. وكلب حراسة قوي ووفي.. ومنزل صغير وسط مساحة خضراء.. يمر بجوارها جدول صغير.. وأشجار متناثرة تزيد من عزلة المنطقة.. وكأنها تساعد الرجل في بعده عن الناس وبقائه وحيداً.

–        أوه لماذا تنبح يا قمر؟ ماذا وجدت هناك..

جرى حيث وقف كلبه يتأمل في الأرض ويشم كأنه يريد لفت الانتباه لشيء.

–        أوه.. طائر جريح.

رفع الرجل الطائر الخائف.. وتأمل في جناحه..

–        إنه مكسور لنحاول أن نعمل شيئاً من أجله.. يبدو لي أنه قوي وهذا سيساعد على شفائه.

توجها إلى المنزل الصغير وبدأ في عمل جبيرة للطائر.

–        والآن يا صغيري.. سأسميك غريب.. وسيكون هذا الاسم لك مادمت ضيفي في هذا المكان..

ثم أدار ظهره والتفت.. ولكنه عاد إلى الطائر وهمس بحزن..

–        بل أنا ضيفك.. أنت صاحب المكان الأصلي.. أما أنا …!

وترقرقت دمعة مسحها بكمه.. وخرج من المنزل.

–        هيا يا قمر.. لابد أن ننهي واجباتنا هذا اليوم.. لا تخف على غريب سيكون بخير.

الأيام تمضي سريعة.. وغريب يتماثل للشفاء في تقدم ملحوظ.

–        والآن يا صغيري.. يمكنك أن تطير خارج المنزل.. وستعود إلى عالمك الفضائي الواسع.

–        تعال يا قمر سنودع صديقنا..

جرى الكلب خلفه وهو يثب فرحاً.

وفي وسط الباحة المحيطة بالمنزل وقف الرجل ومعه الطائر.. بسط كفه.. وابتسم وهو يشير إلى الطائر المحلق.

الحمى تشتد.. والليل يطول.. وهذه الغربة لا ترحم ضعفه.. وقمر قريب من صاحبه يئن لأنينه.. ويقترب ليدفئه بجسمه في ليالي الشتاء الباردة.. والسحب تحجب القمر وعوي ذئب بعيد.. وأصوات الرياح تحرك الأشجار.. وصوت خافت ينادي.. ابني.

أشرقت شمس النهار حاملة الدفء والسعادة.. واستيقظ الرجل يربت على ظهر صديقه ويبتسم له..

–        كانت ليلة قاسية أليس كذلك؟

اكتفى الكلب بصوت يدل على الألم.

–        لقد شعرت بك بجانبي.. هانحن يا قمر غريبان في هذه الغابة.

رد الكلب بنباح.

ضحك الرجل..

–        لا تحب أن تشعر بالغربة.. نعم أنت محق.. هذا عالمك أنت أيضاً.. لايمكن أن تكون أنا.. على كل حال نحن متفقان.. لكل منا عالمه.. هيا بنا لنحضر الماء.

هل نجد صور الوفاء في كائنات لا تعقل؟ هل نراها انتهت من حياتنا؟

قطع ابتسامته صوت أجنحة فوق رأسه.. رفع رأسه وابتسم..

–        هذا أنت يا غريب.

نبح الكلب في سعادة.

–        لقد تذكرتني ولم ترحل.. إذا يا غريب عرفت مكان عشك. قالها مبتسماً.

مرت الأيام هادئة.. وفي زاوية المساحة الخضراء رقد جثمان الرجل.. وقريباً من قبره وجدت بقايا لجثة كلب ضخم.. آثر أن يموت على قبر صاحبه.. وفي المنزل عش صغير يحوي رفات طائر.

هذا كل ما بقي لجيل من الغرباء.. رحلوا عن كل شيء.. ليجدوا الوفاء في مساحة من الغابة.

 

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

التصنيفات
رؤى

الطبيعة القاتلة

6357313887_657e962190_o

أعشق الريف، لا أميل للمدن، وحتى في حبي للمدينة أحب مستوى معينٍ من الرفاهية والخدمات، لأن رحلتي عكسية، الأصل عندي هو الريف، الهدوء والطبيعة، كل التضاريس تأسرني، مهما بلغت قسوتها أو سمّيتها، يتساوى عندي البركان بغازاته، والبحر بأمواجه، والصحراء برمالها، والجبال بصخورها ووديانها. المرأة عندي عالم من الطبيعة، تحتوي كل التضاريس، وتمتد على طول الزمان والمكان في حياتي، مراحل عمري منذ الولادة وحتى لحظتي الحالية، وجغرافيتي المعيشية والدراسية والمهنية والسياحية.

الغابة الاستوائية غنية بالأشجار والمخلوقات، تعدد الألوان والأصوات والروائح سيربطني بتنوع المرأة في الكرة الزرقاء، ويوحي لي كذلك بتعدد طباعها وأساليب تعاملها، التنوع في الكم والكيف تاركاً لك الخيارات الغنية والقاتلة، الرائحة الطيبة والغاز الذي يمزق جيوبك الأنفية وصدرك ويتركك مختنقاً جاحظة عينك من الرعب والألم، المرأة في جمال ألوانها وسميتها الخادعة. في عطائها الامتناهي وفي شراكها الخادعة. تغريك الغابة بألوانها، تتابع الحيوانات في غفلة عن قسوتها، تتأمل جيوش الطبيعة غافلاً عن خطرها، تعانق الأشجار وغصونها والأرض تحتك أوتاد حادة تمزق قدميك، برغم جمال الغابات إلا أنها تحيط بك فتفقد الطريق تائهاً في تفاصيلها. برغم خارطة الألوان من حولك إلا أن الرطوبة تلتصق بك، تحاول خلع ثوبها فلا تقدر، تفقد احساسك بالجمال حين تشعر بالخطر، ومع المرأة يأتي الشعور بالخطر متأخراً، يأتي وقد قررت الانتحار بين يديها وفي محيطها.

اللون الأزرق الهادئ يفاجئك بارتفاع ليغرقك، هكذا هي المرأة في تقلباتها ومشاعرها المفاجئة، باردة متماسكة لآخر لحظة، ثائرة متحفزة لأقصى درجة، من الذي سيتعلم السباحة والإبحار؟! كلما أعطيتها أكثر رحلت معها أكثر، من لايعرف السباحة سيقف على الشاطئ يراقبها دون أن يفهم مابها، من يغامر سيتعلم أن يخوض في تفاصيلها ولكن سيبتلع الكثير من الماء قبل أن يتمكن من العوم، وكلما تمرس أكثر أصبح أكثر مهارة في السباحة والتعرف على التفاصيل، والبعض بحار وقبطان، يدير الوسائل من حوله ليرحل في محيطاتها بعيداً عن ضوضاء الجالسين على الرصيف أو المتمددين على الشاطئ. وبرغم القدرة على الإبحار تفاجئهم الأمواج في لحظة، أو تبتلعهم دوامة، أو يتوهون لتحرقهم الشمس والملوحة.

الرمال الذهبية الحارقة تكون موئلاً للناس في فترات الربيع، تشق جدب أرضها بزور حملتها الطيور والدواب، أو نواة تمر ألقاها عابر سبيل ذات يوم، الأرض المتناقضة بين القسوة والجمال، والماء المتحرك تحت أمواج الرمال، وفسائل النخل المتناثرة تدل على الحياة والخصب بصورة من صورها، تفاجئنا الصحراء باحتوائها لحيوات متعددة كما تفاجئنا المرأة الجافة التي لانتوقع أن لها قلباً ينبض في صدرها، أو نشعر بسريان الماء في عروقها كالماء في باطن الصحراء.

المراعي الخضراء الممتدة على طول شريط الأفق تشعرك بالسعادة، دلالات الخصب والتنوع كثيرة، الأرض تنتج، والبطن تنتج، نتاج الخير في المحاصيل وفي الدواب كثير بحمد الله، هذه الأرض كالمرأة التي تعطيك الذرية الطيبة المباركة، وتعطيك الحب والحنان والثبات في المواقف، سهلة كسهولة المرعى، خصبة كالأرض، طيبة كمحاصيلها، يمكنك أن تأوي إليها مكتفياً بحدودها، لكن روح المغامرة لدى الرجل تقوده أحياناً خارج حدودها، فيحرم من ثمارها، ويعود إليها وقد مزقته الأيام.

يظهر للمتأمل أن السهوب الخضراء كافية للمعيشة، وهي كذلك بالفعل لمن فقد روح المغامرة وحب الاستكشاف، وبينما يرى البعض البحر قاتلاً مرعباً يرى آخرين اللؤلؤ في أصدافه، والصحراء القاتلة الحارقة تمثل الخيار الأفضل للباحثين عن الصمت والهدوء، بين التفاصيل تنتقل، في عالم أقل مانصفه به “الاتساع”، عالم لانمثل فيه إلا القليل، نرتبط به ونعشق تفاصيل التفاصيل، نسعى لاكتساب المزيد من النقاط فيه، ونقف في لحظة لنجد أنفسنا وقد حققنا مانريد، وفقدنا شيئاً من ذواتنا.

المرأة متنوعة كالطبيعة، غنية كمعادنها، قاتلة كوحوشها، قاسية كتضاريسها، كريمة كبحرها، غامضة كالأعماق، محلقة كالسحابة، ساذجة كطفل، ماكرة كساحرة، تحب الخضوع، لكنها لاتحب الاحتقار والاهانة، المرأة تحتاج رجلاً يحميها، لكنها قادرة على مواجهة أقسى الرجال، المرأة ضعيفة، لكنها قوية يعتمد عليها، لذلك لا أتحدى المرأة أبداً، هذه الإنسانة المتناقضة مليئة بالرقة والقسوة، يمكن أن تكون كل شيء، الرحمة والعذاب.

 

(الصورة بعدسة: عبدالله الشثري)