التصنيفات
طائر المئذنة

الأجنبي

Picture14

لن أحاول أن أكتب الأمر وكأنه قصة قصيرة، ذلك أنني أنتقد الكثير من الشباب ممن يبحثون عن الألفاظ الصعبة ليكتبوا مقالاً أو قصة.. ولكنني باختصار أريد أن أكتب قصة صاحبي. لمن أكتبها؟ ولماذا؟ لا أدري في الحقيقة، كل الذي أعرفه أنني لابد أن أكتب عنه وأوفيه شيئاً من حقه في واقع أنكره وتجاهله.

وقف أمامي بقامته الممشوقة وأشار إلى صدره بكلتا يديه ثم قال بأسلوبه المثقف جداً:

–        لنكن واقعيين، فأنا مهما يكن “أجنبي”. وطرح يديه إلى جنبه في حركة تدل على تذمر وألم.

لم أحاول أن أقاطعه.. بل حتى الابتسامة التي أحتفظ بها حين أراه شعرت أنها قد لاتكون مناسبة. ولذلك لم أعلق بأي شيء.

–        الأولاد كبروا يا عزيزي.. ومهما يكن فلهم مطالبهم. غداً سيبحثون عن جامعة تقبلهم، ولن تتسنى لهم الفرص لأنهم “أجانب”.

مد رأسه باتجاهي ليرى تأثير كلامه علىّ.. ثم تابع كلامه بنفس الأسلوب المرير:

–        وإذا عادوا إلى بلادي ماذا سيحدث؟ سيقال لهم أنتم “مغتربون”. في بلادي يقال لي “مغترب”، وهنا يقال لي “أجنبي”، فقل لي بالله عليك ماذا أفعل؟.

لم يكن سؤاله مما ينتظر جوابه.. ولذلك بقيت محافظاً على صمتي. كنت أشعر أنني في قفص اتهام، وأنني مدان، وأن صاحبي سيقول لي في أي لحظة أنت تتحمل جزءاً مما أنا فيه، وهكذا بقيت ملامحي كلها تنتظر اللحظة التي ينفجر فيها صاحبي.

–    عاد يتابع كلامه في انفعال حزين: أنت في بلادك.. إذا ضاقت بك الأرض توجهت إلى الجبل أو إلى الصحراء وبقيت مع بعض الشويهات وانقطعت عن العالم.. من الذي سيبحث عنك؟ لاأحد.. أنا وأشار إلى صدره، أنا لا أستطيع فعل شيء بسبب كوني أجنبي.

–    سبحان الله.. بقيت أتأمل وجهه الأسمر ولحيته البيضاء، كان في العقد الرابع، في أواسطه فيما يبدو لي، وربما في أخره أو بداية الخامس.. وكنت أتعلم منه الكثير.. وأجد في صفاء نفسه صورة فريدة للماضي الجميل. ومع ذكره للجبال عدت إلى موطني.. أحقاً يمكن أن أجد فيه الاستقرار.. ولكنني تركته بحثاً عن رزقي، تماماً كما فعل هو، الفرق بيني وبينه أنني لست بحاجة لكثير  من الإجراءات التي يمر بها صاحبي حين يرغب في السفر.

أردت أن أشاركه في حزنه.. كنت أتمنى لو أستطيع فعل شيء من أجله، ليس مساعدة مني، ولكن لأن هذا واجب علي تجاهه.. إنه مكسب لابد من المحافظة عليه. أفقت من تأملاتي على صوته.

–    أتعلم أنني أتكفل بتذاكر الأولاد؟ إذا جاء أحد منهم أو جددت له أوراقه أو أي مصاريف تخصهم فأنا وحدي من يدفع.. الشركة لاتدفع لهم شيئاً.. ولذلك فأي إجازة تعني الكثير  بالنسبة لي.. واعتمدت على نسبة الأرباح في الشركة، ولكنها تتدهور. ماذا أفعل يا أخي؟

ظللت محافظاً على صمتي.. ثم رأيت أنه من اللائق أن أقول شيئاً.. ربما لاينتظر مني جواب سؤاله، ولكنني بلا شك كنت مديناً له بشيء. ماهو؟ لا أدري، ولكن شعور الاتهام ظل مسيطراً على مشاعري فحاولت التملص.. قلت له بتلعثم:

–        المهم أن تتأكد أنه ليس لي ذنب في هذا.

شعرت أن ردي ليس في محله، كان يبتسم في مرارة، ربما كان من المناسب أن أظل صامتاً.. وشعرت بالارتباك.

أشار إلي بيده، ثم مسح شعره وقال بنفس الإيقاع الحزين:

–        لا عليك.. نحن نخدع أنفسنا ببعض العبارات، “الأشقاء العرب”، “إخواننا العرب”، ولكن في الحقيقة أنني أجنبي!

 قال ذلك وأمسك بقميصه ورفعه كأنه يثقل عليه ويريد التخلص منه.

لم أرد عليه.. ظللت أنظر لأصابعي وهي تقرع الطاولة دون أن تحدث صوتاً ثم قطع علي تأملاتي:

–        أتدري، قبل شهر زوجت ابنتي.. أردت العودة بزوجتي وأولادي.. ضاقت الأمور قليلاً.. قالت لي زوجتي إلى متى؟ شعرت أنني تعبت وقتها.

أحسست به في تلك اللحظة.. ربما أكون قد مررت ببعض الظروف المشابهة ولذلك فهمته.

–        إلى متى؟، إلى متى؟ ألقى برأسه إلى الخلف وأخذ يراقب السقف.

قطع كلامه رنين الجوال.. تأمل قليلاً في الرقم، ثم رد على المتصل في مرح.. كلمات بسيطة أنهى بعدها المكالمة وحاول أن يسألني عن أمور حياتي.

عاد للوقوف ثانية، ونظر إلى الخريطة المعلقة خلفه وأشار بحركة عشوائية.. احتوت حركته الخارطة كلها. لم يقل شيئاً.. تعبيره هذا أبلغ من قوله.

تمنيت أن أقف وأعانقه، شعرت بقربه، حاولت أن أعبر، خانني تعبيري.. لم أجد عبارة تناسب شموخه.. عظيم أنت يا أخي. عظيم أنت. ابتسمت له رد عليّ بابتسامته المشرقة. ضرب فخذيه وقال:

-هيا بنا، قم بنا لنتناول الغداء معاً.

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

التصنيفات
طائر المئذنة

حديث الحقائب

112

سمعت جلبة شديدة وتعالى صراخ الصغار.. ثم فتح باب السندرة القديمة وألقيت حقيبة، وأغلق الباب بقوة وساد الصمت ثانية.

كانت السندرة القديمة تمثل مخزناً لهذه المنازل النصف قروية.. وباستثناء كوة صغيرة مرتفعة لم تكن ترى النور إلا في مرات محددة من السنة، تمثل الفترات التي تهتم فيها الأسرة بتنظيف المكان وبالتخلص من بعض الأشياء القديمة لتوفير مكان لأشياء أخرى ستلقى فيها ذات يوم.

أثارت الموجة التي مرت قبل قليل بعض الغبار.. ثم بدأت الأمور تعود إلى هدوئها ثانية.. وعاد الغبار إلى التراكم ثانية على الأشياء المكومة هنا وهناك. حقائب متعددة المقاسات، قطع أثاث، أحذية مختلفة، مرآة مكسور طرفها تقبع مائلة في ركن قصي، وصناديق فيها ملابس شتوية لم يحن موعد استخدامها، وجرائد قديمة كانت مهمة ذات يوم، ومعاطف الصقيع معلقة على مسامير حديدية وقد علاها الغبار وبدأ العث يرتع فيها.

قطع السكون صوت ضحكة فتية.. فيما تململت الحقيبة الملقاة وبدأت تعدل من وضعها.. ثم التفتت إلى مصدر الصوت وسألت بغضب:

–        لمً تضحكين؟

ارتفعت القهقهة دون اهتمام بالسؤال.. فيما تململ صوتٌ عجوز مستنكراً الضجة..

–        ماالذي يجري هنا؟ لماذا ترتفع أصواتكم.

سمع صوتاً من الزاوية المظلمة في السندرة يقول:

–        يبدو أن هناك ضيفاً نزل علينا.. أهلاً بك أيتها الحقيبة الصغيرة لماذا تبدين غاضبة؟

ردت الحقيبة الصغيرة:

–        أريد أن أعرف لماذا تقهقه هذه الملونة؟

أجابت الملونة:

–        أهلاً بك.. اسمي ليلى، أنا حقيبة ألعاب الطفلة هناك في الأسفل. ضحكت لأنني شعرت بحالك.

–        وما المضحك المضحك في حالي؟ ردت الحقيبة بغضب.

–    كلنا هكذا حين نصل إلى هذا المكان.. نشعر بالغضب في البداية لأننا لم نتعود على الغبار.. ثم نألف الأجواء وسرعان مايصبح شعور الغضب نوع من اللامبالاة.

أخذت الحقيبة تسمح أثار الغبار عن جلدها وهي تغمغم بكلام لم يفهمه أحد.. ثم رفعت رأسها بنوع من التكبر وقالت:

–    ولكنني لست كالآخرين.. الأمر لا يعدو ظروفاً خاصة تمر بها الصغيرة، وسرعان ماستفتقدني وتعود لتبحث عني وتخلصني من الأشخاص غير المحببين.

ضحكت الحقيبة الملونة.. فيما رد الصوت العجوز بنبرة فيها عمق التجربة:

–    جميل، جميل أن يعيش الإنسان بالأمل.. وجميل أيضاً الثقة بالنفس. ولكن الأهم من الإحساس بالأمل هو أن نستمر نحيا به.. ونشعر بقدرتنا على العطاء بالرغم من كل الظروف.

رد صوت خافت من داخل أحد الصناديق..

–        لا عليك يا أماه.. هكذا كنت أقول في البداية، ولكنني اليوم سعيد باستقراري داخل هذا الصندوق..

ثم فتح الصندوق وأطل رأس صغير يشبه فردة حذاء طويلة العنق.. وتابع كلامه:

–    أتريدين الحقيقة.. الرضى بالصندوق أفضل من أسنان كلب تقبض علي، وتجري بي في الشوارع والمزابل، وتلقي بي في النهاية عند بركة ماء خلفتها الأمطار بجوار رصيف قذر.

ثم عاد وأغلق الصندوق.

–        ما الذي يجري هنا؟ ماهذا الكلام.. صاحت الحقيبة برعب.

–        ضحكت الحقيبة السوداء بحنان ثم قالت:

اقتربوا مني يا صغاري وأنصتوا إلي أقص عليكم قصة هذا المكان.

بدأت الحقائب والصناديق تلتفت إليها مصغية إلى قصتها.. فيما أخذت العجوز تروي.

–    في الماضي كان لهذا المكان وزن وقيمة.. لأنه كان محطة مؤقتة.. ففي الصيف توضع فيه أغراض الشتاء، وفي الشتاء تحفظ فيه أشياء الصيف، حتى يحين موعد استبدالها.. وكان الناس وقتها يهتمون باقتناء ماينفعهم.. ولأنهم يعيشون على الأرض فهم يقتصدون في كل شيء.

عالم الناس كعالمنا تماماً.. فلكل شخص مهمته أو وظيفته في الحياة.. تماماً كالوظائف التي نؤديها.. فالحقيبة التي تصلح للمدرسة لا تصلح لحفظ طعام الرعاة.. وهكذا لكل قيمته.

مع التطور بدأ يتغير هذا المكان.. وأصبحت تلقى فيه أشياء عديمة النفع، ثم يتم ترتيب المكان لتلقى في المزابل وتنسى.. وأصبح من يأتي هنا لأول مرة يشعر بالتذمر، ثم لايلبث أن يتعود فتخمد ثورته، ثم يصمت حتى يأتي يوم يعاد استعماله، أو يلقى خارجاً.

–        وماذنبي أنا؟

–    ليس لك ذنب يا صغيرتي.. كما أنه لا أحد لم أفهم؟ ذنب في هذا.. لقد تغير كل شيء.. فليس لكم قوة الأسلاف.. كما أنه ليس لنا منظركم البراق.

–        وهل.. هل.. سيرمون بنا؟

–        هذا يا صغيرتي يتوقف عليكم.

–        ماذا نفعل؟

–        حافظوا على جمالكم.. خيوطك الصغيرة إذا تمزقت من الحزن سيفسد مظهرك، وستفقدين قوتك.. وسيلقون بك حين تصبحين عديمة النفع. ولكنهم سينظفونك ويعززون خيوطك بخيوط أخرى إذا رأوا أنك لازلت صالحة للعمل، وأنك تحافظين على عطائك.

لم تظهر علامات الرضا على الحقيبة الصغيرة.. وفي الوقت نفسه سمع صوت اصطدم طائر صغير بالنافذة، حاول العبور ولكنها كانت موصدة.

قالت الحقيبة الكبيرة:

–    هذا الطائر على سبيل المثال، لم ييأس من محاولات الدخول هرباً من الشتاء.. مع أنهم هدموا عشه ثلاث مرات.. وسينجح حتماً.. على الأقل وجد لنفسه مكاناً تحت قرميد المنزل، ولن يلبث أن يجد طريقه من خلال الأخشاب. إن الحياة لاتنتهي.. هي هكذا دائماً.. تمنح من يجتهد فيها.

–        لكنها أنانية.

–    لا يا صغيرتي.. ليست كذلك.. هم من صنعك.. ويريدون الاستفادة منك.. قدمي لهم شيئاً مقابل الساعات التي عملوا فيها بين الآلات لأجل أن يخرجوك بمنظرك الحالي.

–        ولكن لنا الحق في الحياة.

–        نعم.. صحيح، وهم أيضاً يريدون الحياة.. وكلانا يكمل الآخر.. لكل منا قيمته.

قالت حقيبة زرقاء كبيرة:

–        أوه يا جدتي.. لازلت تكررين نفس الكلام.. ليس لهم من الخبرة مالك.. الأيام كفيلة بتعليم الناس.

ردت الحقيبة الصغيرة:

–         وماذا تفعلين أنت؟

–    أنا حقيبة الجد.. حين يسافر فإنه يتذكرني.. يأخذني، ينظفني، وأحياناً يصبغني لأبدو بمظهر الصغيرة. لقد جبت معه عديداً من البلدان، ورأيت كثيراً من الأشياء.

–        وهذه الملونة؟ أشارت إلى ليلى

–        ليلى حقيبة قماشية.. إنها للزينة أكثر منها للاستعمالات العملية. حين تقام الاحتفالات يأتي مقامها.

–        فاشلة..!! قالت ذلك بترفع.

فتح الباب فجأة واندفع صبي وطفلة يتعاركان:

قلت لكَ لاترم حقيبتي مرة ثانية.

–        وأنا قلت لكِ اتركيني وشأني.

–        أين ألقيتها أيها المتوحش؟

قال الصغير بتكبر..

–         لا أدري، حاولي أن تجديها بنفسك.

التفت الصغيرة إلى حيث تجمعت الحقائب بجوار الجدة.. ثم صاحت بفرح..

–        أوه ما أجمل هذا. انظر كل حقائبي هنا.

جرت نحو الحقائب ثم رفعت ليلى وشرعت تنفض عنها الغبار..

-لازالت جديدة، فقط تحتاج إلى تنظيف.

ثم أمسكت بالحقيبة الصغيرة:

– وهذه حقيبتي لقد وجدتها، لن تستطيع أن ترميها ثانية.

التفت الصبي إلى الصندوق وهناك لمح الحذاء البني.. لمعت عيناه في لهفة:

وهذا حذائي.. لقد وجدته..

سحبه بعنف وضربه في الجدار لينفض عنه الغبار.. فيما ارتفعت صيحة الحذاء المتألم. وقبل أن يخرج فتح النافذة ليجدد الهواء.. وليدخل الطائر الصغير.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

 

 

التصنيفات
طائر المئذنة

أول يوم دراسي

أول يوم دراسي copy

وقف بسيارته بجوار المبنى وأخذ ينظر في صمت حزين إلى الباب الأسود الكبير.. شعر بضآلته أمام هذا المارد.. أيعقل أن تمر الأوقات بهذه الصورة المرعبة في نفوسنا فتقتل كل لحظة جميلة عشناها؟.

التفت إلى الباب ثانية، لم يكن ينتظر خروج الأطفال فهو يعلم أن المدرسة مغلقة في هذا الوقت.. كانت الساعة الواحدة ليلاً والشارع خال من المارة.. رجع بذاكرته إلى الوراء وتذكر مدرسة القرية.. اليوم أول يوم دراسي له.. تذكر ابتسامته وهو يجري في الحديقة.. تحديه له في سباق يبدأ من مكان أمه وينتهي بنهاية الشاطئ.. المرور بين العربات في المحلات التجارية وهو يرتدي حذاء التزلج.. وكلما رجع لعربته يضرب ظهره في ابتسامة بريئة تعجز كل ريشة عن تصويرها.

تذكر أنه لم يأكل شيئاً منذ الصباح.. تحرك بالسيارة وتوقف أمام مطعم للوجبات السريعة.. نظر إلى المقعد الفارغ بجواره وابتسم ودمعة تنحدر من عينيه وخاطب المقعد.. ماذا ستأكل؟

لم يكن ينتظر الرد.. لكنه فعل كما كان يفعل دائماً معه.. لم يكن يراه مجرد طفل.. بل كان طفله وزميل عمله وكل شيء في حياته.

أوقف السيارة ثانية على الشاطئ المظلم.. سكنت نفسه لصوت الأمواج.. وعادت الصور في ذهنه من جديد.. حمله على كتفه.. وضع يده الصغيرة على رأسه.. ووضع ذقنه فوق يده.. وبدأ يكلمه.

أبي.. أريد هذا القلم.. وأريد هذه الأوراق الملونة لأرسم فيها.. واو أبي أريد هذه الحقيبة الصغيرة لأضع فيها أوراق ميدو.. ميدو الدب الصغير الذي لا يفارقه حتى في منامه. ويلتفت إلى ميدو المرتبط بصدره.. تريد هذه؟ سأشتريها لك.

أبي هذا اللون لا يصلح.. لابد أن تغيره لي.. أنظر لدي هنا ملابس كثيرة تشبهه لماذا اشتريته.. المرة القادمة أنا سأذهب معك لأشتري بنفسي.. يتركه يركض إلى غرفة مجاورة.. يعود إليه مبتسماً ويختطف قبلة تطبعها شفتاه الصغيرتان.. أشكرك أبي.

–        أبي.. أنت كبير؟

–        نعم يا بني.

–        يعود لذهوله المفاجئ.. وأنا.. كبير، أم.. صغير؟

–        أنت رجل كبير جداً.. انظر. ويقف الأب على ركبتيه ويقترب من الابن الجالس على السرير.. يساوي الرأس ثم يقول انظر.. أنا أصغر منك.

–        ويبتسم الابن.. وسأذهب إلى المدرسة؟

–        نعم وستكون أفضل مني.

–        وأشتري حذاء تزلج جديد؟

–        تريد حذاء جديد؟.. لديك اثنان.

–        أريد الفضي.. أعجبني ويصلح مع هذا القميص..

وترتسم الابتسامة ثانية.

–        حسناً سأشتريه لك غداً بإذن الله.. هيا الآن للنوم.

التفت إلى السماء.. النجوم تزهر.. وعادت ابتسامته ثانية..

–        بابا.. أعطني حبل.

–        لماذا؟

–        الشمس ستختفي في البحر.

–        ولماذا تريد الحبل؟

–        سأرميه عليها وأرفعها فوق.. ليزداد النور.

آهـ لو علمت بما حدث لأبيك يوم رحيلك يا بني.. عاد لليل والبحر يتأمل في سكونهما.. وصوت الأمواج الخفيف يضرب الشاطئ في لطف.. وأضواء صغيرة بعيدة على امتداد الأفق توحي بالمشاركة في هذا الملكوت.

–        خلاص.. يكفي كلام.

–        ما بك يا بني؟

–        أتعبوني بالكلام.. أوجعني رأسي.

يبتسم ثانية ابتسامة أقرب ما تكون للبكاء.. هذا الصغير … واختفت الكلمات من شفتيه.. وعاد ثانية لمكانه.

نزل من السيارة وبدأ يمشي.. الرمل ناعم.. ورجله تغوص فيه.. عادت الذكريات لنفسه.. أبي انتبه لا تتسخ وإلا ستغضب أمي.. امش هكذا ويتحرك بهدوء على الشاطئ.. يعود مسرعاً إلى سيارته.. يرتمي على المقعد.. كل شيء، كل شيء يذكرني به.

يتحرك بالسيارة الوقت قارب على الفجر.. يصل إلى بيته وقت الأذان.. يصلي الفجر ويعود إلى غرفته.. يمكنه أن ينام قليلاً قبل أن يذهب إلى عمله.. يغمض عينيه وصورة الصغير ترتسم أمامه.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)