التصنيفات
تربويات

بين غاندي واقبال

 بعض المؤثرين من أهل العلم والفضل يطرحون كلاماً من تجارب قادة الشرق والغرب وساسته كغاندي وهتلر وكنفوشيوس وغيرهم ممن لا أعرف أسمائهم وإن كنت قد قرأت كتب بعضهم، ويرون أنهم من خلال ماينقلونه يلامسون حاجة الكثير وواقعهم، ربما يكون غريباً أن أقول وأنا ممن تتلمذ على يد بعضهم أنني في غنى عن سماع أو قراءة بعض مايكتبون، ولي عذري وأسبابي لقول ذلك ومنها:

  1. أنني أعلم مدى علمهم بالشريعة وفضلهم في العمل بها والتعامل مع المواقف والفتن.. وأرى أن مالديهم من علم بالنصوص ومواقف تطبيقة صقلتها الخبرة يساوي النقول التي ينقلونها ويتفوق عليها بتأصيله الشرعي واستناده إلى الوحي والتعامل مع الواقع.
  2. أن الكثير ممن يتلقون الكلام يحملون شهادات علياً في تخصصات مختلفة كالطب والهندسة وعلم النفس والإدارة والاجتماع وغيرهم، بينما لايحملون علماً شرعياً كافياً لأداء بعض الفرائض في الدين وهم بحاجة إلى التعامل مع النصوص الشرعية وإيصالها عن طريق هؤلاء العلماء اللذين لهم قبولاً عن الناس، ولذلك كان الأولى في تصوري الاستفادة من اقبال الناس عليهم في معالجة القضايا المعاصرة وفق الرؤية الشرعية وبالدليل الشرعي بدلاً من النقل لغير المسلمين ولو كان كلامهم صحيحاً ويمكن الاستفادة منه في مواضع أخرى أو مع شريحة أخرى.
  3. أن ماينقل ليس بالشي الاستثنائي في مضمونه، ولكنه قد يتميز بأمور أخرى ومنها:
  • سهولة اللفظ وإمكانية استيعابه من القارئ.
  • المباشرة للفكرة وطرح الحلول والعبارات الواضحة المعالجة لها.
  • أن فيها الربط بين الواقع والممارسة الغربية المعاصرة، والتي تعد النموذج الأمثل في العصر الحديث للنجاح.

وفي تصوري أن هذا كله غير مقبول مقارنة بعلمهم وفضلهم وخبرتهم الإنسانية وحجم العلم الشرعي لديهم، ويتوقع منهم أسلوباً آخراً في الطرح ومن ذلك:

  • أن يقوم العلماء والمربين بالتعامل مع النصوص وإعادة طرحها بمستوى يمكن للقارئ المعاصر استيعابه والتعامل معه بوضوح دون التعثر بمصطلح مبهم يضيع روح الطاعة والامتثال للشرع.
  • أن يقوم العلماء والمربين بتحديد المنهجية الشرعية للتعامل مع النصوص والمسارات الحركية التي لابد من السير فيها دون أن يكون هناك إفراط وغلو أو تفريط وتمييع للقضايا.
  • ربط الناس بأصولهم الحقيقة من خلال التركيز على ثلاثة مناهج هي:

–        الأول: منهج السيرة النبوبة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وإحياء معنى الاقتداء في نفوس المسلمين.

–    الثاني: منهج سير الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وقد عرفوا بحصرهم على التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ابتداع أو تشدد.

–        الثالث: منهج المعاصرين من المسلمين ممن عرفوا بصفاء المعتقد واتباع النصوص ولهم سابقة فضل وعلم ودعوة وجهاد.

هذه هي المنهجية المنتظرة من أهل العلم والدعاة وهي تكافئ مايمكن أن يطرحه الفلاسفة والمفكرين على مر العصور.. إن هناك الآلاف يعرفون جيفارا وثورته وكفاحه ولكن القليل يعرفون أبو بصير وثباته، وهناك الكثير يعرفون غاندي وهدوئه ولكن القليل يعرفون أسيداً بن الحضير وبعد نظره، وهناك الكثير يعرفون راسوبتين وقوته ولكن القليل من يعرف حنظلة بن عامر غسيل الملائكة، والكثير يعرفون نابليون ومكره ولكن القليل يعرفون معاوية بن أبي سفيان وحنكته.. وأؤمن أن القارئ سيتقبل سعيداً نصاً صحيحاً موقوفاً أو مرفوعاً.. وسيحاول تقليد النص وتحويل الصورة في النص إلى واقع ملموس في الحياة.. ولكن لايمكن أن يكون ذلك مالم ينتبه المؤثرين من الدعاة لذلك ويهتموا أكثر بالنص الشرعي.. والله يقول: “ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا”.

 

(الصورة بعدسة: ديبو)

التصنيفات
تربويات

عاص محب ولا شهود

شرب الخمر.. فعوقب.. ثم سار في شوارع المدينة لا يلتفت لأحد..

ثم شربها وعوقب ثانية وسار وابتعد.. وأراه وقد تسلق قمم الجبال هارباً من نفسه وقومه..

وعاد للمدينة.. ورآها فعاد إليها.. وعاد إليه الحد مرة أخرى..

وقف مطأطأً رأسه.. خلفه رسول الله وصحابته يجلدونه.. وغضب منه البعض.. ورماه البعض بكلمات لابد وأن تخرج في مثل الموقف..

جلبت العار على المدينة..؟

ألم يؤثر فيك الإسلام..؟

ألم تنفعك الصحبة..؟

ألم.. ألم.. والألم يزداد في نفسه مع كل ألم ترمي إليه..

ويقطع التساؤلات صوت البشير النذير..

لا تسبوه.. إنه رجل يحب الله ورسوله..

اليوم تعاد صور الأنصار..

في رجال صغار صغار.. يمزقهم الألم شوقاً لأولئك العمالقة..

ونقع في معصية نبكي مجاهدة لها.. ولا راد لضغطها على النفوس..

ونقع ثم نقع ثم نقع.. وكلما وقعنا وأردنا العودة.. لم نجد شهادة بمحبة سكنت القلوب..

ها أنذا ثانية يا أنا..

على خطى البررة أسير وإن كنت من العصاة..

وكلما وقعت طويت نفسي على نفسي..

لغياب الشهادة التي تثبت القلوب في خطى المحبة..

والذكريات خناجر تجتاحني *** لا كف تمنعها سوى كف القدر

يا أنا..

لم الغريب يطيل البعد في سفر *** يرنو إلى الدرب في يأس ويحتار

يمضي وحيداً. كأن الأرض خاوية *** لا خل فيها ولا صحباً فيختار

لم أتسأل.. ولو تسائلت لعرفت الجواب..

بل تعجبت من شأنه وكل الناس حوله..

يختار لنفسه البعد..رحمة بنفسه وبهم..

 

(الصورة بعدسة: عبدالله الشثري)

التصنيفات
تربويات

ملحمة المتهم.. أدب ينبض بالجراح

“من مقالاتي السابقة.. ويستحق النشر لتميز العمل الذي قدم”

ضمن فعاليات هذا الصيف في المنطقة الشرقية ومدينة الدمام تحديداً قدمت اللجنة الثقافية بنادي الاتفاق والتي يرأسها الأستاذ عامر العنيزي مهرجاناً إنشادياً بعنوان: مهرجان الكلمة الطيبة الثاني. وقد تنوعت فقرات المهرجان كما هو المعتاد في مثل هذه الأحوال بين الفقرات الإنشادية والمشاهد المسرحية والمسابقات المتنوعة والسحب على العديد من الجوائز الفورية. وساهم في إحياء برامج المهرجان عدد من الفرق الإنشادية المحلية والخليجية واستمرت العروض لمدة ثلاث ليالٍ ، إلا أن اليوم الثاني فجّر مفاجأة أسعدت الحضور فقد شاركت عشائر جوالة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بملحمة رائعة بعنوان “المتهم”. الملحمة عبارة عن قصيدتين الأولى للدكتور الشاعر عبدالرحمن العشماوي ، والثانية للمهندس عبدالمعطي الرحيلي. وهي من إخراج الأستاذ محمد الحكمي ، وساعده في الإخراج الأستاذ محمد عبيدالله  ، ومن ألحان وإنشاد الأستاذ عبدالله الضحيان الذي برز كنجم واعد وطاقة شبابية تحتاج إلى توجيه واستغلال ، وشارك فيها كل من الأستاذ عبدالعزيز باروم والأستاذ محمد عسيري والأستاذ معتز الحلو والطفل إبراهيم المقيط. واستمرت الملحمة لمدة خمسة وعشرين دقيقة حملت المشاهدين إلى فضاء واسع وتركت أثرها في كل النفوس.

تميزت الملحمة بعدة نقاط كانت كالآتي:

–   الديكور والإضاءة الذي قامت بتوفيره اللجنة الثقافية بالنادي  تحت إشراف ومتابعة مساعد المخرج وكان الديكور يصور الأمة الإسلامية من جهة وهي واقعة تحت الضغوط العالمية وأعدائها من جهة أخرى وقد رفعتهم الدنيا ليكونوا فوق أرضية المسرح. وجاء دور الإضاءة بمؤثراتها القوية ليشكل نوعاً من التوازن يخرج المشاهد من الملل ويحول الصورة بين الأبطال وكأنك تشاهد عرضاً سينمائياً ، لاعرضاً مسرحياً ثابتاً.

–   الإخراج الفني وقد أبدع الأستاذ الحكمي والأستاذ محمد في إخراج الملحمة.. حتى أنسيا الحضور أن هذا مجرد حفل فتسارعت نبضات القلوب مع الأبيات القوية التي كانت تنطلق من حناجر الممثلين ، ولينافس العرض وبقوة العروض التي يمكن أن تقوم اللجان الثقافية الأخرى بإعدادها. فاتحين بذلك مجالاً رحباً لصفوف أخرى من المبدعين للاستفادة من هذه التجربة ومحاولة إثراء الساحة الفنية والمسرحية بإعلام هادف ومتميز.

–   الأداء.. تقمص كل ممثل دوره المنوط به فبدت الأدوار حية وكأنهم شخصيات حقيقية ، وكأن الأحداث التي كانت تدور على أرض المسرح كانت واقعاً وظهر هذا من تأثر الجمهور وتفاعله مع كل مقطع شعري قدمه الممثلون ، وأظهر هذا وبوضوح الكفاءة الشبابية التي تتميز بها جامعاتنا ، والقدرة على الإبداع التي لدى شبابنا.. كما أكدت الأهمية الفعلية للأنشطة الطلابية ، إذ أنها الأساس في صقل المهارات وتنميها.

–   الفكرة والمضمون.. الملاحم ليست شيئاً جديداً ولكن الدمج الرائع الذي خرجت به ملحمة “المتهم” أعطاها روحاً مختلفة ، إذ كنت تشعر وأنت تشاهد وتسمع أن روحك تكاد تغادر صدرك لتقفز إلى المسرح وتحاول أن تصنع شيئاً من التاريخ لتقدمه للأمة.. والمتهم الذي كان يرمز للإسلام كان يفند التهم التي يهاجم بها ، ومع أن محاولة إخراسه كانت قوية إلا أن صوت الحق ارتفع في الأخير وبالرغم من التآمر العالمي الذي برز في الملحمة.

ونقلتنا الأبيات التي عرضت لتجعلنا نفكر في الأدب وكيفية توجيهه لخدمة قضايا الأمة.. كما أنها اختصرت الطريق على تحليل بعض الأمور في واقعنا وهذا الشيء ظهر من خلال التهم التي كانت تلقى على المتهم “الإسلام”.

كانت بداية الملحة قوية ، فبدون إعطاء أي فرصة للإسلام فوجئ بهجوم خصومه ووصفهم إياه:

أنت لدينا.. أنت لدينا متهم..

أنت أقسى من طواغيت الأمم..

أنت كالطاعون يسري في خلايا الجسم..

كالأحجار في دار إرم..

أنت منسوب إلى فرعون.. منقوش على باب الهرم..

أنت من أنصار من يشقى به العرب.. وتخشاه العجم..

أنت جرح نازف أنت ألم..

قف هنا أنت لدينا متهم..

أنت لا يرويك ماء.. إنما يرويك دم..

أنت للإرهاب قرطاس.. وحبر.. وقلم..

وبالرغم من فضاعات هذه الاتهامات يحاول الإسلام أن يرد عليهم بابتسامة هادئة:

امنحوني فرصة يا قوم كي أدفع عن نفسي التهم..

فأنا ياقوم لم اسمع بما قلتم ولم..

وأنا يا قوم …

ولكنهم يقاطعونه وبشدة ليبقى في مكانه دون حراك:

أسكت أيها الوغد.. وقف مثل الصنم..

وتتوالى الاتهامات وتعرض الأسباب التي أدت لمثل هذا الهجوم العنيف:

أنت ما باركت شارون.. ولا باراك..

ما باركت تلك الهيلمة..

أنت لم تمدح يهود الدونمة..

أنت لم تخدع بأضواء بريق الأوسمة..

أنت لم تبكي على الليدي ديانا..

حينما حطمها العشق..

وأعطاها فتى العرب دمه..

وكان صوت الإسلام يرد على كل تهمة:

ويحكم.. لست أرى في ما ذكرتم مثلمة.

ويستمر الحوار في الملحمة بين الإسلام وبين مناوئيه لتنفد الشبه ، بل يمكننا القول أن الملحمة كانت شارحة لكثير من القضايا السياسية التي تمر بها أمتنا ، لتضعها بين يدي المشاهد في بساطة ودون تعقيد:

إننا نملك آلاف الشواهد..

أوماتسعى إلى نشر المحامد؟

أوماتسعى إلى نشر الهدى؟

أوماتسعى لتعمير المساجد؟

أوماتدعوا إلى حشمة ليلى؟

بهذه البساطة تتضح الصورة من خلال الملحمة.. فبينما يحاول الخصوم جعل مسلمات الدين سبباً للاتهام وللفساد نجد صوت الإسلام يصل بهدوء ولكن بعمق يقتلع الشبه والوساوس من الرؤوس ، مخبراً عن حبه للسلام وعن صفاء قلبه من الحقد.. لكنه أيضاً واضح فهو يكره الظلم ولا يرضى بتشويه المعالم ، وهو كذلك يقدم روحه فداء لدينه.

ويعود الحوار ليدور فما يراه الإسلام من ثوابته يراه العدو سبباً لتهمته..

أنت لم تترك صلاة الفجر يوماً..

قل نعم.

أنت لم تهجر كتاب الله يوماً..

أنت تدعو الناس للإسلام..

قل أيضاً نعم.

أنت مازلت ترى المسجد الأقصى امتداداً للحرم..

وينطلق صوت الإسلام ثانية.. ليدافع عن نفسه.. بل ليوقف هذا المد في قوة حجة..

أنا لا أرضى بتقليب الوطن..

أنا لا أرضى بترحيل الملايين..

عن الأرض ولا هدم السكن..

أنا لم أحرق سراييفو.. ولا حطمت كوسوفا..

ولا أحرقت عشاً وفنن..

أنا ما أثكلت قلب الأم.. وما أشعلت نيران الشجن..

ثم يصل صوت الطفل لينضم إلى صوت الإسلام في دفاعه.. معبراً عن الصحوة في قلوبنا وأمتنا ومجتمعاتنا..

لست أنت المتهم..

يا عم.. لست أنت المتهم..

أنت نور قد أضاء الكون فانزاح الظلم..

أنت في صفحات هذا الكون أبدع من رسم..

أنت للحب سماء.. أنت للصدق دِيَمْ..

أنت للعقل وفاء.. أنت للسلم علم..

وفي نهاية الملحمة يسكت صوت الباطل. وتظلم المساحات التي وقفوا عليها.. ويبقى نور يهدي الجموع إلى الطريق.. وتبقى هذه الملحمة شاهداً على إبداع شبابنا.. وعلى وجود الطاقات المشتعلة المحبة للوطن.. المدركة لمعاني المسئولية.. الرافعة لواء الإسلام ليكون شعاراً يقود الأمم إلى طرق النجاح.. وتبقى همسة أخيرة لإعلامنا بضرورة تبني هذه المواهب.. وفتح المجالات لها.. بل واستقطابها وتشجيعها لأداء المزيد والمزيد من الملاحم.. علهم من خلالها يوقظون من أمتنا من أدركه الوسن. لقد كانت “المتهم” فرصة لنا جميعاً لنعرف موقعنا من ديننا.. ونعيد النظر في عطائنا.

يمكنك الاستماع للملحمة

(الصورة بعدسة: ديبو).

التصنيفات
تربويات

حتى لا ننسى.. “من الصين إلى فرنسا”

 

 

ما يجري في الساحة العالمية ويتعلق بالأمة الإسلامية من ضعف وتخاذل وبعد عن المنهج من جهة، ومن اضطهاد وتقتيل من جهة أخرى ليس بأمر جديد عليها.. فالتاريخ الإسلامي حافل بالأحداث الغريبة والعنيفة والتي فاقت في آثارها هذه الهجمة الشرسة التي تحدث في الوقت الحالي.

  

دماء و نور..

ومع مرارة بعض صفحات التاريخ، إلا أن هناك فرقاً قوياً لصالح الماضي ويتمثل في الآتي:

–   أولاً: وجود علماء يرجع الناس إليهم ويقف أصحاب القرار عند اختياراتهم في الغالب، وحتى في الفترات التي تعرضت هذه الرموز للإيذاء والسجن كان عموم الناس ينتظرون كلمتهم في المواقف تماماً كما حدث مع الإمام أحمد حين قال والناس ينتظرونه كل قد حمل أوراقه وقلمه: “أأنجو أنا، وأضلّ هؤلاء؟”.

–   ثانياً: الخوف من العلماء لمكانتهم في نفوس الناس، وهذا ما دعى المأمون لتأخير خروجه بالبدعة لحين وفاة بعض رموز الحديث، فلما ماتوا وحانت الفرصة أمر “ألا يأمرن أحد بمعروف ولا ينهين عن منكر”. وما كان ليخرج ببدعته وينصر المتكلمين ومن شايعهم من أهل البدع لو أن علماء الحديث الكبار أحياء.

–   ثالثاً: وجود تدين فطري عند الناس وتوقير لشعائر الدين، وسيؤدي هذا لصد الهجمة من قبل العوام.. ومن هنا تنوعت البدع التي غزت البلاد لتصرف الناس عن الإسلام.. وتسهل بالتالي أمر اختراقه والكيد له واضعافه.

–   رابعاً: وجود نوع من التكافؤ في الفرص.. ففي الوقت الذي تتعرض بعض رموز الإسلام ومعانيه لمحاولات الاضعاف نجد أن هناك عوامل قوة أخرى تحسب لصالح الأمة.. كما هو الحال في المعتصم مثلاً، ففي الوقت الذي كان يضرب فيه الإمام لموافقته في البدعة، نجد أنه يفتح البلاد ويزيد من رقعة الدولة الإسلامية.

–   خامساً: الصراحة في المعادة، وهذا أمر يؤدي إلى نتائج حميدة بالرغم من الظاهر السلبي له، فمن واجه الحق أعلن العداء صراحة فتمايزت الصفوف وقلت نسبة من تستر بالإسلام والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبحت الأمة متفرقة كل يعرف قومه وأهل ديانته ومذهبه.

وهكذا نجد أنه بالرغم من بعض الضعف في نواحٍ معينة إلا أن هناك نواحٍ أخرى تمثل قوة للإسلام والمسلمين.

 

مساحات شاسعة:

إن الفرق بين الماضي والحاضر يتمثل في عدة صور.. وبحسب نظرية النسبية سنجد أن معطيات الماضي تخفف وقوع الصدمات على الأمة.. فالحديث عن الماضي من أجل المقارنة سيشمل عدة نواح، أطلق عليها مجازاً “مساحات” ومنها:

–   أولاً: المساحة المكانية.. إنني في حديثي عن الأمة لا أعني قطراً أو بلداً.. بل أعني مساحة شاسعة أمتدت من الصين شرقاً إلى فرنسا غرباً.. وغطت مساحات واسعة من أفريقيا والجزر الشرقية.. وبهذا ولو لجأنا إلى نظرية النسبة والتناسب لخف الأمر على النفوس ولوجدنا بعض الأقطار الإسلامية كانت في أوج عزها ومنعتها في الوقت الذي ضعفت فيه أقطار أخرى.. هذا بالنسبة للماضي، ولكن الحاضر يختلف فالأمة الآن مشتتة.. فقدت المساحات الواسعة التي كانت تحكمها، وما تبقى من أماكن عمه ضعف وتخاذل وبعد عن الدين ومحاربة له أحياناً إلا من رحم الله.

–   ثانياً: المساحة الثقافية.. وهي أيضاً واسعة فهناك حضارة شرقية قامت في شرق البلاد على أنقاض الفارسية، وحضارة غربية قامت في اوربا على أطلال النصرانية، وهناك حضارة عربية اختلطت بغيرها.. وهناك حضارة أفريقية كضرورة لابد منها واجهها الفاتحون في بلاد أفريقيا من مصر إلى المغرب، وتميزت في بعض جوانبها بلا شك. وبالتالي فمجمل هذه الثقافات أعطى جوانب ايجابية كثيرة تعوض الجوانب السلبية التي أصابت الأمة.. فظهرت العلوم المتنوعة التي واجهت علوم البدع، كما ظهرت الصناعات المختلفة، والنظم الإدارية وغيرها. والثقافة الآن تبع للغرب في أمور كثيرة، وليس بخطأ أن نستفيد من الغرب، ولكن المصيبة أن نتبرأ من معتقداتنا من أجل الغرب، وأن نحاول أن ننشر مايرونه صحيحاً على أبناء المسلمين دون أن نمحصه ونعرضه على كتاب الله.. ومثال ذلك: مايعرف بالأدب الجنسي الذي غزا بعض المسلمين ممن ينتمون إلى الإسلام وينادون بحرية الكلمة والتطور والحضارة والثقافة.. ناهيك عن التعدي على العقيدة والمقدسات.

–   ثالثاً: المساحة الزمانية.. وهذه الثقافات والحضارات قامت على مدى طويل، وبقيت علماً يأوي إليه الناس حتى في فترات الضعف.. فالدولة الإسلامية كانت تمثل رمزاً بلا شك تأنس إليه النفوس وترتاح في ظلاله القوافل.. واستمرت قرابة الألف وثلاثمائة سنة شملت عهوداً من الضعف وعهوداً من القوة، بينما الواقع يقول أنه وفي فترة زمنية بسيطة تراجعت القيم والمساحات وضاقت على الناس الأرض بما رحبت، أو ربما رحبت بكل شي إلا الناس والقيم الصحيحة.

وبالرغم من كل هذه المميزات والعيوب، إلا أنني أميل لترجيح كفة الماضي، وبالرغم من مميزاته التي أشرت إليها، فإن للماضي صورة متميزة متألقة هي هدفي من العرض، وهي أن قوته في بعض معطياته، وتغلب البدع عليه في معطيات أخرى، لم تجعل الأمور تصل إلى التطاول على بعض المسلمات.. أو على الأقل بقيت بعض المناطق في منأىً عن الفساد الإداري والاعتقادي الذي ضرب الأمة في بعض مناطقها.. بينما الحاضر وبالرغم من ضعفه وتفككه وتقسمه إلا أنه وصل إلى مسلمات الأمة وتطاول على ثوابتها في بعض الأوقات والأماكن.. والمصيبة الكبرى في هذا الأمر أن هذا التطاول أخذ صورتين مؤلمتين:

–   الأولى: انخداع أهل الخير والفضل بما يشاع ويتردد. فوقفت الأمة بالتالي موقف المدافع أمام الهجمة التي تتعرض لها الأمة، وبدأت تحاول أن تلبس لبوساً يرضى أعدائها من أجل أن تسلم من اللائمة.. وكان من المفترض أن تقف موقف المفاصلة في القضايا الأساسية على الأقل.. وتستقل في رأيها وتصوراتها وتكون شخصية واضحة مستقلة، وهذا من شأنه أن يعصم الجيل الناشئ من الفساد في الاعتقاد ومن الانحراف في السلوك. ويبين الحق فلا تلتبس الأمور ونضيع ونحن نشاهد الواقع الدامي في العديد من بقاع الأرض.

–   الثانية: عدم وجود الرادع لبعض المثقفين، ممن يخالفوننا في الدين أحياناً ويأتي ليقيم أمور المسلمين وينصب نفسه حكماً ومصلحاً للأمة. بل فتحت لهم أبواب الإعلام العالمي ليطعنوا في الدين باسم الدين، وليتعدوا على حضارتنا باسم الحضارة، وليعدوا الإسلام كمنهج في آخر الصفوف زاعمين أنهم يقيمون بعض المنحرفين من المسلمين.. ولو صدقوا الله لكان خيراً، ولكنه المنهج الملتو في التعامل مع الإسلام.

أما من تسلط على أمتنا في وقتها الراهن فهم أصناف كثير لعل أبرزها:

– من هم من غير ملتها ويعلنون انتمائهم لملل أخرى. كاليهود، والنصارى، وغيرهم.

– من هم من أبنائها ويعلنون انتمائهم لملل أخرى. كالشيوعيين والبعثيين وغيرهم.

– من هم من ابنائها واختلط أمرهم وحجتهم في الهجوم تخلف الأمة والتشدد والتعصب.

– من هم من أبنائها وأعمتهم الشهوات.

– من هم من أبنائها وغرر به وخدع بمنمق القول فظن الحق مع الخصم وعادى أمته وتبرأ منها.

وهذه القافلة المشوهة تشبه إلى حد بعيد القافلة التي خرجت من الأمصار لقتل أمير المؤمنين “عثمان بن عفان” رضي الله عنه وأرضاه. وهي كما وصفها الطبري تسقطت كل من في قلبه غلّ على الخليفة من السراق اللذين أقام عليهم الحد او ممن تأثروا بالبدعة، وبمعنى آخر جمعت كل متردية ونطيحة مما لا تجزئ في النسك. إن واقعنا ينطبق عليه المثل العربي “حشفة وسوء كيلة”..

ولــو أنـي بليت بهاشمي *** خـئـولـتـه بـنـو عبد المدان

لهان عليّ ما ألقى ولكن *** تعالوا وانظروا بمن ابتلاني

حتى لا ننسى أمتنا وخلافتنا أردت أن أذكّر وأنبّه.. فلكل منا دوره، ولكننا لم نقم بأدورانا على الوجه المطلوب.. وهذا أدى بالتالي إلا تواكل وإلقاء اللوم على الآخرين دون أن يحاول بعضنا أن يصلح أو يسدد أو يتحمل مسئولية.. وواجبات الدين أكبر مما نؤدي في الواقع.. بل إننا نسينا بعض واجباتنا في حمأة الصراع على المصطلح.. وانشغل العاقل بالمشاهدة والمراقبة، وانشغل آخرين بالتبرير وتحسين الصورة بزعمه. ولو عدنا إلى الله بكل جوارحنا وأقمنا شرعه في أنفسنا وبذلنا الأسباب.. لخشعت الآرض، واهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فأمنا، وأمنت، وأورثنا الله الأرض نتبوأ منها حيث نشاء.

 

(الصورة بعدسة: ديلمان)

التصنيفات
تربويات

معايير الأربعين

أنا رجل تجاوزت الأربعين، قرأت كثيراً، وسافرت كثيراً، وشاهدت كثيراً، وكتبت كثيراً.. ومن خلال مزيج الكثرة خرجت بقناعات أورثت قلبي السكينة، ومنها أن الناس لن يكونون على شاكلة واحدة فلكل أمة توجه وطريق، فاستوعبت الخلاف واقتنعت أن لكل إنسان حقه في الكثير من الأمور، لم أهتم بالخلاف كثيراً فارتحت من تعب الردود.

حين أقرأ كتاباً جديداً، أو أستمع لأطروحة أو اسمع عن فكرة فإن لي مجموعة من المعايير التي لابد وأن تمر الفكرة بها، تتساوى الكلمة والموقف كذلك في المعايير، فما وافق المعايير قبلته ونفسي مطمئنة، وماخالفها رددته نائياً عنه مؤمناً أنه لايلائمني، وماأشكل علي وهو مهم بالنسبة لي رجعت للمختصين لتوضيحه وعرضه ثانية على المعايير، وإن كان غير ذلك بقي في الذهن لحين الحاجة إليه، ويعود العرض مرة أخرى للتأكد من مدى التطابق والموافقة. ومن معاييري:

– العقيدة.. ليس فقط اثبات وجود الله، بل أمور أخرى تتعدى ذلك، كاثبات ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، والسلامة من البدعة، والموافقة لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وأي شي يخص الإيمان كالقدر ومايرتبط به من مسائل، ولم أتعب كثيراً في العقيدة فقد أسست على النص، واهتم بالدليل، لست بعالم ولكن أرجع لعلماء أثق في دينهم وأمانتهم وفضلهم وعلى رأسهم الشيخ ابن باز رحمه الله.

– الآداب.. فسلوكيات المجتمع وعرفه لها مكانتها في التشريع، وتؤثر بلا شك على اختيار ممارسة أو تعبير، وكمنهجية اجتهدت في تجنب الفحش أو الدعوة إليه، وحرصت ألا أكون سبباً لفساد الناس، فرق بين معصية نقوم بها، وبين معصية نؤصل لها وندعوا الناس إليها، الحياء زين كله، في الرجل والمرأة، وهو في المرأة آكد، لأنه يفترض أن تكون أكثر حشمة وعفة، فرق بين فتاة تهتم بطهرها وعفتها، وبين أخرى تجاهر بتقصيرها وتروي مغامراتها، وأحببت العفاف وغالبت نفسي عن المعاصي وتعبت وساعدني من حولي ممن يحملون لي محبة صادقة، وأحببت رؤية الخير في أطفالي فحرصت على نقل المبادئ لهم من خلال أمٍ صالحةٍ مصلحةٍ.

– الذائقة النقدية.. ولي ذائقتي في النقد، في اللغة والفن وعلوم الشعور، يمكن أن تكتب ماتريد، ولكنني سأتوقف لأقول لك هذا شعر وهذا نثر، هذا حسن وهذا رديئ، وهذا رسام مبدع وهذا بعيد عن الإبداع، وهذه القصيدة عميقة المعاني، وتلك متكلفة خاوية لاتحمل معنىً ولا هدفاً سوى وسوسات كاتب، وتلك اللوحة حملت قصة واضحة في ألوانها وخطوطها، وهذه لوحة لافرق بين أن توضع بهذا الشكل أو بالمقلوب.

ولست الوحيد الذي يحكم في المعايير، فلكل معيار أهله ممن يعرفون ضوابطه وحدوده، ويؤصلون مسائله وبحوثه، ويحكمون على الصحيح منه وعلى الفاسد، فإن عجزت عن الحكم بنفسي لجأت وقلبي مطمئن إلى الثقات في كل فن فاستشرتهم، وناقشتهم لو أشكل علي شي من كلامهم أو كان غامضاً أو افتقر إلى دليل، حتى إذا بدت لي الجادة توجهت بيقين وثبات وعملت بما اتضح أنه الحق حتى لو خالف نفسي، وانتبهت لمداخل الشيطان في ذلك فأغفلت العقل أمام النص، تسليماً لأمر الله، ووضعت العقل حين أمرني النص بصيرة وتأملاً، فمازلت أتقلب بين تأمل ويقين، ورضاً واحتساباً، لاهياً عن الآخرين، مؤصلاً لمنهجية الصواب، عاملاً بما آمل أن يكون نجاة لي حين أبحث عن طرق النجاة.

قد نتعب في التوصل للمنهجية الصحيحة ولكن السبب الأكبر لذلك غياب العلم الصحيح المبنى على الدليل الصحيح، أو تفسير الدليل الغير الصريح بأصحاب مناهج شرقت وغربت فأبعدت عن الجادة وأضاعت السالكين، والآن عزيزي القارئ، عد إلى المعايير واعرضها على نفسك، فإن قبلتها قبلت خيراً وشريعة، وإن رددتها فما أنا عليكم بحفيظ.

 

(الصورة بعدسة: ديبو)

التصنيفات
تربويات

سفر واستقرار

لم يبق لي من أماكن الصفاء سوى المطارات.. راقبت المدرجات.. تأملت الناس.. واكتشفت أن الأشياء تتشابه.. الطائرات والناس.. القصص التي أسمعها من جيراني في الرحلات أو في الانتظار تتشابه.. المشاعر والمواقف تتكرر.. هل نخاف السفر أم الاستقرار؟ في السفر تتغير الأماكن.. في الاستقرار نتغير نحن.

حين نعود لمكان بعد مدة من الغياب نبكي على الذكريات، فهل سنبكي على أنفسنا بعد أن نغيب عنها لفترة، ثم نراها وقد تغيرت؟ في تغير المكان يمكن أن نبدأ بداية جديدة، نرى كل شي بإيجابية، نفرح بالمشي بالتأمل، بالأشجار وبالبشر.. لماذا لانفكر بايجابية تجاه أنفسنا ونستفيد من تجاربنا اليومية؟

الأنفس كالأماكن.. لكل نفس خصائصها، وثرواتها، فقط من يمتك حق التنقيب ولديه الرغبة في ذلك سيستطيع أن يستفيد منها.

للخروج من دولتك تحتاج إلى جواز، وتحتاج إلى تأشيرة لدخول دولة أخرى، للخروج من نفسك ماذا تريد؟ ولدخول قلوب الناس ماذا تحتاج؟

هل جربت شعور الترحيل؟ لاترغب في العودة إلى بلدك، توضع في حافلة تحت رقابة وتقلك إلى المطار، في محطة الوصول تشعر بلامبالاة، تتسكع حتى بوابة الخروج، تركب مع أي سيارة دون أن تتكلم، تنظر إلى الأشجار وأعمدة الاضاءة تمر بجوارك دون أن تعني لك شيئاً.. تظل مرتبطاً بالمكان القديم.. ستحتاج وقتاً لكي تتخلص من هذا الشعور الكريه.. لن تتمكن من أداء أي عمل وأنت تحمل في قلبك تأشيرة البلد القديم.

الناس في السفر ليسوا جزءاً من الصورة، هم صور أخرى مكلمة للصورة الكبرى، كقطع البزل.. يمكن استبدالهم بآخرين، الناس في الاستقرار قطعة منك، لو حركتهم مزقت بعضك.. فتشعر بالألم مضاعفاً.. حتى الخباز تناديه بـ(عم).. كأنه من أهلك.. في الصور الكبيرة نتعب لنجد القصاصة المكملة.

في تجارب السفر ينبهر الناس بك.. ستكون أنموذجاً مميزاً بكل مافيك، في الاستقرار لم يعد لدينا معايير نحكم بها.. تختلف المعايير بمرور الزمن.. نحفظ معاييرنا في صدورنا كما تحفظ جدتي المصحف في كيس من القماش خوفاً عليه من الأذى، ويظل في النهاية مصحفها الشخصي، كما هي معاييرنا شخصية.

في السفر قد تتغير بعض المعطيات، وقد تتغير كلها، ماهي الثوابت؟ الموت فقط.. فالسعي وراء الحياة متغير متجدد الصور.. في كل لون تدرجات، لانجتمع في تدرج واحد.. فقط حين نموت نشترك في السواد.. في السفر ترى ماتحب.. الأماكن، الوجبات، الأشخاص، كل شي، يكون عندك عينان فقط، في الاستقرار ترى بعيون من حولك، تأكل مايقدمون، وترى من يزورك في وقت قد لايلائمك، وتضطر لتأخير عمل مهم يخصك لتزورهم في مناسباتهم، وقلما تشاهد ماتريد، وقلما تفتح عينيك.

في السفر تستيقض مبكراً لترى كل مكان، وتشعر بكل دقيقة من حياتك، وفي الاستقرار تنام وتشعر بالتعب، عظامك تؤلمك، ومفاصلك تشتعل، وتراقب العقارب البطيئة في تكاسل، وتتمنى لو تسارع الزمن، وانتهى يومك وغدك وبعده.

وأعود للمطارات من جديد، أذهب مبكراً جداً للرحلات، لايفهم أصدقائي السر، ربما أكون محقاً أنني أنهي بعض الأعمال في وقت الانتظار، ولكنني أراقب نفسي هناك، أبحث عن نفسي، وعن لحظات جميلة قضيتها وحيداً متنقلاً، وعن شاب في العشرين كان جريئاً كفاية ليسافر حول العالم بحقيبة شبه فارغة، وبجيب أكثر فراغاً، وبقلب مليئ غني.

(الصورة بعدسة: ريان المنصور)

التصنيفات
تربويات

عصاة.. ولكن بررة

–       أحمد الله أن الله ربي.

–       …..

–       لأنه لو ترك حسابنا على الغير لضعنا.

بهذه البساطة عبرت عما في نفسي.. فمن غير الله يقبلنا؟ من غير الله يتجاوز عنا؟ من غير الله يرحمنا؟ تأملت في مجتمع الصحابة وكم عشقت ذلك المجتمع ولازلت متعلقا به أهفو إليه.

التصنيفات
تربويات

مكالمة

(مؤمن أن هذه مشاعر إنسان ما.. في مكان ما.. في زمن ما)

 

لو أردت فإنه بإمكانك أن تسمي هذه الرسالة نزف القلم، أو قل غياب الروح، فحين قررت الكتابة لم أكن أفكر فيها، بل لم أكن أفكر في شي سوى في شعور غريبة يجتاح نفسي ويملئني برودة حارقة كالجليد.

 

الأيام تمر، وأنا الآن في سنتي الأخيرة وأخيراً سأدخل الأربعين، أتخيل سيرتي الذاتية المليئة، والتي ليست سوى سيرة مهنية أمتلك مثلها سيرة أدبية، وسيرة .. .. حركية إن صح التعبير.

 

أتذكر حديثي معك اليوم، وهو حديث أأنس به كثيراً فقد تعودت منك أن تصارحني بما تراه، لا أن تقول لي ماأحب سماعه، وتعلمت منك بلا شك، فهناك أبواب من الأفكار فتحت، وأخرى أغلقت، وإن كنت لازلت أشعر بالفراغ والصقيع.

 

أفكر أحياناً في بعض الرموز المعروفة في بيئتها، ليست بالشهيرة جداً، ولكنها شهيرة في مجتمعها، يسعد الناس بالتعرف إليهم، وحقيقة هي ذات العبارة التي أرددها حين أقابلهم في مشروع أو مهمة، ولكن حين أعود لحياتي فلاشي أضرّ بي مهنياً كما فعلوا هم.

 

يمكنك أن تتخيل أنواع الضرر التي لحقت بي بسببهم، الفراغ الروحي، قسوة القلب، الغضب، وحتى التعب والجهد، والضرر المادي، ثم أخرج بحصيلة لاتغني ولاتسمن من جوع.

 

التفكير في العزلة راودني مراراً، ولم استطع تحقيقه، بل حتى العزلة المقننة أو الجزئية لم أتمكن من الوصول إليها، فقد كان هناك سبب في كل مرة يمنعني من تحقيقها، مرة الحياة ومطالبها، ومرة الأسرة ورغباتها، ومرة التفكير في المسقبل وتبعاته. لا أطلب التميز الإيماني ممن حولي، ولست كذلك في الحقيقة، ولكنني أثق في إيماني، تماماً كما أثق لحظة كتابتي هذه بإيجابية القدر ومدى ملائمة مايختاره الله لنا، غير أن الحزن قدر أيضاً لابد وأن أنال نصيبي منه.

 

ذات مرة قلت لصديقي في العمل شيئاً عن المنافسة، فأنا خصم متعب لأنني طويل نفس وقنوع، أساعد من حولي، ولكن لايعني هذا إنشغالي عن الطريق.

 

أين هو مكاني الملائم؟ ماهو عملي الأنسب؟ أصمت غالباً حين يسألني الناس هذا السؤال، هل لأنني متعدد المواهب؟ أو لأنني لاأعرف الإجابة؟ أم لأنني أخاف من ذكر الإجابة؟ لاتعليق، فلكل إجابة بلا شك وجهة تحتمل الصحة وترتبط بالمؤثرات، وهكذا سأكون كل الناس في وقت من الأوقات.

 

يلومني البعض في تنقلي المهني، وأقف أمام لومهم وتقييمهم السلبي لي منزعجاً صامتاً في غالب الأوقات ومبتسماً في أوقات أخرى ومتفجراً في وجوههم في بعض الأوقات. من هو المسئول؟ وهل أخطات في تنقلي؟

 

بين وظيفة لاتوفر لي إيجار المنزل الشهري ناهيك عن تكاليف الحياة، ووظيفة وفرت لي الأمان المادي والمكانة الأفضل؟ في ظرف سبع سنين تغير كثير من المعطيات في حياتي، من التعليم الثانوي إلى الدراسات العليا.

 

وبين فرح البعض بنجاحي، وضيق البعض بمنافستي، وحسد البعض عشت حياةً يملئوها الخير بحمد الله، ولا تخلوا من فجوات تبطئني لأقف بعد كل حفرة لبرهة ألملم ماتناثر من أوراقي.

 

في حياتي البسيطة مساحات واسعة من التجارب، يميزها المعرفة بالتجربة، أي أنني حين أخوض تجربة فإنني استحضر كافة حواسي لتسجيلها والتعامل معها والاستفادة منها الاستفادة الكاملة، وبالتالي فلكل شي معنى خاص به، الشمس الحارقة في مدينتي لاتشبه الشمس الحارقة على الشاطئ، فهنا جافة أشعر أنني ألمسها وهي تطبعها جلدي بسمرة الجبال، بينما أشعر بها مبتلة في الشواطئ وكأنني سأكشط الجلد مع قطرات الرطوبة الملتصقة بيدي.

 

هذه التجارب تثريني، وفي الوقت نفسه تؤذيني، فحين أكون من القلائل اللذين يتعاملون مع الحياة بهذه المنهجية سأجد التعب، فهروبي من التعثر سيجعل من خلفي يغضب من بطئي أحياناً دون أن يدرك أنني قد سرت في هذا الطريق مرات سابقة.

 

ذات يوم قال لي رجل وهو يبتسم ابتسامة المربي العارف للحياة وأسرارها “لابد أن تتغير، دع الأمور تمشي كما يريدون”، وحاولت وقتها مجارتهم ولكن لم أتحمل الحياة. البعض يمشي عارياً على الشاطئ، ولكن الكثير منا لايستطيع أن يلبس شورتاً قصيراً في السوق، لماذا؟ لأنه لم يألف العري، ويعرف الفرق بين الستر والكشف.

 

المكاتب الحية النابضة، ورائحة القهوة تزكم الأنوف، وصوت الضحكات لم تكن تشغلني عن القلوب ومايدور فيها من مأتم والأرواح وهي تتعثر في مستقنعات قذرة موحلة. حتى المرأة التي ابتسمت لي وأبدت إعجابها بعطري وطلبت مواعدتي والخروج معي وانهت لقائنا بابتسامة ووردة وضعتها على مكتبي، وقبلة طائرة، كأنت أهون بكثير مما يدور من مواقف في هذه الوحدات.

 

ربما لم يكن حباً بقدر ماكانت شهوة وانبهار، ولكنها كانت مباشرة واضحة يمكن تلافي سهامها بقليل من الجهد وبالاستعانة بآخرين في بعض الأوقات، ولكن مايدور هنا هو شي آخر. بالأمس كنت في مزرعة مع رجل ظل فيها ستة عشر عاماً، تعلمت من جلوسي معه أن القلوب المريضة ترفض البيئة الصحيحة في البداية لأنها لم تألفها، فتظل فترة تصارع رغباتها وتطلب العودة للمستقنعات، لحين يزال بعض التركمات السوداء عنها وحينها يبدأ القلب في النبض طلباً للهواء النقي.

 

قلت لرجل قبل أيام، هل ستمتلئ الآبار لو نزل المطر؟ قال المشكلة في قلة البركة، صدمني دون أن يشعر، فهناك نقص في القطر ونقص في البركة. وهناك قلوب متعطشة لقطرات الإيمان.

 

تختفي سيرتي الذاتية المهنية، وتعود سير أخرى تبرز نفسها أمامي لأختار، أغلق باب الذكريات فلاحاجة لأي منها الآن، فمن لم يقتله السيف يلحقه الأذى، وأفكر في صوتك وأنت تكلمني، ولاأجد مبرراً لطعنات الناجحين، وأصر على أنها فشل مغطىً لم يبصره الآخرون لغياب المعايير وقلت المربين. أضع أقلامي على الطاولة، وأشبك بين يدي، وأتامل في صمت وشرود، لاعزلتي وصلت ولا حضارتهم قبلت، لاقلب ولا عقل، و.. .. .. أقفل الصفحة.

 

 

 

(الصورة بعدسة: عبدالله السعد)