التصنيفات
رسائل إلى نفسي

القوافل

6875477697_92181ab38b_z

22/9/2011م

المنزل (الصالة).. الساعة 03:00 مساءً

 

لماذا تطلب مني في كل مرة تدوين ماحصل، ثم تقف مكتوف اليدين حين أحاول كسب تأييدك!؟ هذه المرة لم أعد أبحث عن مكان أستقر فيه، ابتعدت عن المطارات والموانئ ومحطات القطارات والحافلات، سلكت طريقاً داخلياً يؤدي بي إلى مزرعة بعيدة أو تلال رمال لايلتفت إليها أحد.

مساحاتي هذه المرة تغيرت ملامحها، كثيراً؟ لست أدري، لو فكرت في النتائج فسأقول لا، لم تتغير كثيراً، تغير المحتوى ولكن بقيت عاداتي كما هي.

أتعرف ياصديقي، أنا أحسن تكوين عاداتي، عدة أيام من الممارسات وأكتسب الصفة الجديدة، لايزعجني الروتين، المسارات الثابتة أكثر سلامة ووضوح ولرجل مثلي ستكون خاتمة مثالية لحياة صاخبة.

في الليل أجلس فوق سريري المرتفع أراقب الرمال الفضية وأقلب في موجات الراديو، أتذكر جهازي؟ لازال معي كما تركته، لم أعد أجد فيه أخبارنا، ولم أعد أجد فيه برنامجاً يشدني، حتى الإعلام نسينا.

في الماضي لم تكن الاذاعات تحمل أنباء انتصاراتنا ولكننا كنا نتابع أخبارها، هل كنا نحاول قراءة المستقبل من خلال تصريحات عمياء!!؟، هل كنا نوهم أنفسنا ونمنيها بمعجزة تغير كل شيء!!؟، لقد عرفنا النهايات منذ البداية ولكننا انغمسنا في لذة اللحظة ومرارتها، كانت الأمور تقوم فجأة وبسرعة، لتنتهي فجأة وبلمح البرق، كنا نلهث خلف الحدث لكي لايفوتنا شيء من تفاصيله، ولنجد أنفسنا خارج المعادلة في كثير من الأوقات. الأسماء والصور والمواقف والذكريات تعج بحقائب اللاهثين، الضاربين في الأرض يفتقدون الراحلين إلى السماء.

بقي من قصتي فصل أخير، الأيام طوت الصفحات ببطء، لتحدث آثارها في ذاكرتي وجلدي وشيء من حواسي، غرفة صغيرة وقطيع غنم ورجل ينتظر الموت، تغريني السماء كما كانت تغريني من قبل، وتشدني الأرض بصورة لم أعهدها، أدور في محيط ثابت أتابع أغنامي وأنظم المكان، وفي الليل أرحل في دروب الراحلين.

أغمض عيني علّي أمسك بشيء منك، من حروفك، من تفاصيلك، افتقد ابتسامتك، وقطرات الماء المتجمدة على لحيتك، وصمتك وتعليقك وتعلقك، القميص الأخضر الذي بقي منك لم يعد يلائمني، لكنني أضمه في كل يوم، أعيد ترتيب أغراضي القليلة لأبرر لنفسي زيارة آثارك. خارج هذا المحيط يا صديقي لم يعد هناك الكثير ليقال أو ليعمل، هذا القميص رافقني في محطات كثيرة، مسحت به دموع ودماء الكثير، وبقي خط ملح يذكرني بمسيرة العرق تحت الشمس الحارقة في الدروب المعشوشبة.

اليوم سقطت سكيني، افتقدتها، وعدت أمسح الطريق الذي أسير فيه، وجدتها، ووجدت كذلك أنني أسير في نفس الخطوات لا أغير الطريق، حتى في هذه الصحراء المترامية تقل خياراتنا يا صديقي، ابتسمت حين تذكرت تضاهرك بالصمم، كدت أضحك برغم الخوف الذي يلجم الكثير، حين عبرنا كنت صامتاً غاضباً لم تبتسم كعادتك، شعرت بغضبك برغم هدوئك، كانت هذه آخر أعاصيرك قبل أن تهدأ ثورتك، مع سقوط آخر أوراق التقويم في ذلك العام سقطت أوراقك وأوراق الآخرين، بقيت ألملم مابقي مني وأجمع ماتركتموه لي من أوراق.

صوت الراديو يناسبني منذ أن كنت شاباً، تخيلت رسائل المورس وتابعتها على أنها رسائل الفضاء، كم مجنوناً غيري كان يدون نقاطها وخطوطها ليترجم معانيها على أمل أن يفتح باب اتصال بالفضاء، لماذا نفر من الأرض في السماء في كل الأحوال، في يقظتنا ونومنا، في واقعيتنا وخيالنا.

في طفولتي كنت أركض مراقباً تشكيلات السحاب، اليوم أسير مطاطئاً رأسي أفتش عن مسار أضع قدمي فيه دون أن يصيبني الأذى، كل التغيرات شعرت بها في داخلي، أما في الخارج فلم أعد أرى شيئاً مما يدور هنا وهناك. لاشيء يربطني بهم ياصديقي، حتى حروف اللغة المشتركة التي ننطق بها تقع في سمعي بلكنة أعجمية لا أميز تفاصيلها. لم يبق من الحرف نغمة ولا رسم. عشقت اللغة كثيراً وأسكرتني الحروف منذ أن عقلت، اليوم أحاول ضم الحروف لأمنع قتلها على أيديهم، أنهكوا الأرض ياصديقي، أنهكوها فعلاً فلم يسلم شبر منها من جراحهم، ولوثوا ماطالوه من السماء.

حتى هذه المساحة داخلي تغير لونها، أصبحت داكنة، ليست كجدران بيوتنا اللامعة، الذاكرة متعبة كالشمس قبل المغيب، حتى الصور باهتة مصبوغة بلون الشفق، مالذي بقي لي مني؟ مالذي تركوه لي من نفسي، تركت لهم كل شيء لكنهم لم يتركوني حتى قاسموني نفسي. أقف مع نفسي أحدثها كما أحدث غريب يجمعني به طريق لاخدمات فيه، أخاف مني حين أواجهني، أنكر تصرفاتي، وأهرب مني لأبحث عنك، أضمك نافراً مني لعلك تحتويني، مضحك أن أهرب مني إليك، لكنك كنت صمام أمان تمنعني مني.

لماذا اكتب؟ الشوق ياصديقي كلمة نقولها حين نطرب، لكن الصمت والدموع هي الأدوات التي نستخدمها حين نحب، أغمض عيني لأراك وابتسم، أيهما أجمل؟ ابتسامتي أم ابتسامتك؟ الصحيح أن مايرتسم على شفاهي ليس سوى انعكاس صفائك، هذه شفاهك في وجهي، بسمة أنت زرعتها مراراً في طريق الألم، في مطارات نبذتنا، وفي جبال جرحتنا، وبين قلوب قتلتنا، أغمض عيني واستنشق نسيم الخريف، هذه أوراق صفراء ستسقط، ومع نهاية الموسم سيدفننا الرمل من جديد.

 

(الصورة بعدسة: Fer Montero)

رخصة المشاع الابداعي
هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نسب المصنف – غير تجاري 4.0 دولي.

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

4 تعليقات على “القوافل”

تلك الكلمات الرائعه ….و العبارات الموزونه ….هي كما هي و كما كانت و كما نحن عهدناها ….وقفت مرتبة لتصطف …وتحبك أروع قصه و أروع خاطرة سمعناها ….
سلمت يداك ا.عبدالله على ما ابدعت …و وفقك الله دائما لكل ماهو جميل و مفيد …

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.