التصنيفات
طائر المئذنة

كفاح

كفاح

لا أدري لماذا شعرت بالرعب عندما فكرت في الكتابة.. ربما لأنني أراه في كل سطر من سطور قصتي.. ومع أنني لست بكاتب.. إلا أنني أشعر بالكلام يتدفق على الورق.. خياله المنكسر يرافقني في منامي.. وصورته أبصرها في كل شيء حولي.. من الذي عاش في الأيام ومن الذي عاشت الأيام فيه؟ الرجل المتعب الباسم.. ونظرته البراقة.. ترفعني من عالمي لتقذفني في الظلام.. أرتطم بكل شيء في الوجود.. أشعر أنها سياط تلهب أضلعي.. وكأنني لست سوى فرد من عصابة تآمرت على قتله.. ومع كل شهقة من أطفاله.. أشعر بتمزق روحي من الداخل.

عادة ما تبقى بعض المواقف في صدورنا لا ننساها.. ويبقى أحياناً بعض الأفراد في خيالنا لا يبتعدون.. تضرب جذورهم في أعماق الذكريات.. وكلما قلبنا صفحة من سجلها نراهم في كلماتها وبين أسطرها.

منزل الطين الصغير.. والشارع الترابي.. والليالي الباردة.. والابتسامات الكسيرة.. والأرواح السعيدة أو الحزينة.. كلها تمثل سعيد.. رجل الأربعين المكافح.. بابتسامته البسيطة.. ونظرته الغامضة.. سألت أبي عن قصته.. أخبرني أنه سكن الحي منذ فترة طويلة.. منذ أن كان شاباً.. وعلمت من أبي أن الابتسامة ليست شيئا جديدا عليه فقد عرف بها منذ القديم.

عرفت العم سعيد منذ أن كنت طفلاً.. صوته يخترق ظلام الليل في ساعات السحر وهو يذكر الله ولحيته سوداء، قليل فيها الشيب.. ونوع من الرضا تشعر به إذا رأيته أو سمعته يتكلم.. كيف؟.. لا أدري، ولكن كنت أشعر برضاه في كل شيء أراه فيه.

وأما العمة شريفة فهي نموذج لامرأة القرية.. المرأة الصابرة المطيعة.. التي لم تعرف من الرجال إلا محرماً.. وعاملت الناس بطيب قلبها.. وصفاء فطرتها.

لكنني أذكر أن جانباً كان غامضاً على الناس.. غريباً علي لم أميزه في تلك السن.. وعرفته الآن.. مرض العمة شريفة.. وتوقفها عن الإنجاب.. وخروج العم سعيد في الليالي الباردة الماطرة.. يحمل كيساً على ظهره، ومظلة يحتمي بها من المطر.

كنت صغيراً يثيرني كل شيء لأتبعه.. ماذا يريد.. وبين الشوارع الضيقة رأيته يطرق أبواباً مظلمة.. يسمع من خلفها بكاء الأطفال ليضع في كل بيت شيئاً يخرجه من كيسه.. وينصرف وهو ملثم.. والدعاء يرتفع له من الأفواه الكثيرة المزدحمة على الباب الأسود.

سمعت أن عم سعيد سيسافر.. هل يعني سفره ذهاب عبدالله و عبدالرحمن؟

هل سأفتقدهم فلا أراهم ثانية؟

لا أدري.. ولكنني نسيت كما نسي الجميع أمرهم.. وغاب عنا وطويت صفحة كما طويت صفحات.. ولم يبق لنا سوى الذكريات الباهتة.. وصورة بيت طين قريب من بيوت الحي الكبيرة..

لم أتوقع أن تمر الليالي سريعة هكذا.. ولكن هذا هو شأنها إذا لم تكن تحمل هماً أو ألماً.. فوجئت بالساكن الجديد للحي.. الأعوام الخمسة عشر غيرت في الناس الكثير.. ولم أعرفه، وبدا أنه لم يعرفني.. ولكن همساً سرى في الحي يقول إن هذا الرجل هو صديق قديم.

كان هو زميل الطفولة.. هو عبدالرحمن ابن العم سعيد.. وسرعان ما شعرت بالأنس معه ولكنني لحظت أنه كان دائم الحزن كثير الشرود.. لم يكن يشير للأسرة أبداً.. ولم أكن أجرؤ على القرب منه لأسأله بعدما شعرت بصمته حول هذا الموضوع.. ولم يكن يقترب من الناس كثيراً إذا استثنيت نفسي وجارنا القديم عمر.

علمت من أمي بسر القصة كلها.. كان مرض العمة شريفة هو بداية النهاية.. تكاليف العلاج الباهظة أتعبت الرجل، فقدم كل ما لديه.. ولما ضاق به الحال استدان من أبي الذي وقف بجواره بحكم العلاقة القوية بينهما.. ولكن لم يحاول أي إنسان أن يساعده.. وماتت العمة شريفة.. لم يطق البقاء بعد رحيلها فكانت قصة السفر.. وانتقل إلى مكان آخر لا يعرف فيه أحداً.. وهناك لم يهمله المرض بعد وفاة شريكة الحياة.. فعانى قليلاً ثم لحق بها.. وبقي أولاده مع قريب لهما حاول أن يوفر لهما ما يحتاجانه.. ويريد الله أن تقبض روح عبدالله ليبقى عبدالرحمن وحيداً لا أخ له.

علمت بهذه التفاصيل متأخراً.. ولكنني عدت لتلك الليالي الباردة.. والنظرة الساهمة والقلوب الصادقة.. وتخيلتهم رحلة المعاناة مع المرض والجوع.. ومع كل همسة كنت أذرف دمعة لا أدري ستكون كافية لكي يسامحوني؟ أم أنهم يفضلون أن يرحلوا تاركين لنا البسمات الدموع.

البعض يكافح ليعيش.. والبعض لا يفهم من معاني الكفاح إلا ثورات الصغار في عالم يلتهمه الكبار.. وبين مكافح يتعذب.. ومعذب يبتسم.. تظهر نماذج تؤثر الموت الطاهر على الحياة المتسخة.. من قلوبهم تنبض الحياة.. ومن مأساتهم ترتوي الدموع.. وفي عالمهم الكبير، لن تكفي مشاعر الأقزام. ستبقى صورة العم سعيد بالرغم من اتساع الحي وكثرة العمران.. وسنبقى نفتش في أعماقنا عن الإنسان النابض.. ومهما أتقنا الكلام، فلن نؤثر إلا بعمل نقدمه لأمتنا.. ولهؤلاء الأطهار، نقف كالصغار نتعلم من شموخهم.. ونهدي إليهم النزيف.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.